رسائلٌ ذهبيةٌ في مليونية الأرض والعودة

بقلم: مصطفى يوسف اللداوي

كثيرةٌ هي انجازاتُ مسيرةِ العودة الوطنية على مدى عامٍ كاملٍ، وعظيمةٌ هي نتائجها على امتداد الوطن، التي ما كانت لتتحقق لولا الدماء والتضحيات، والجراح والصعاب، والمعاناة والألم، والقهر والغضب، والوجع والمرض، والجوع والفقر، فقد قدم سكان غزة الكثير على مذبح المسيرة، وأعطوا بسخاءٍ وضحوا بجودٍ وكرمٍ، وما بخلوا وما جبنوا، وما ضعفوا وما استكانوا، وما ملوا وما يأسوا، بل واجهوا سلطات الاحتلال بكل جرأةٍ وشجاعةٍ، وعزمٍ وإصرارٍ، ووعيٍ ويقينٍ، والتزموا طوال العام في كل فعالياتهم اليومية وفرق الإرباك الليلية بتعليمات وإرشادات قيادة الهيئة الوطنية لمسيرة العودة، وضربوا بالتزامهم بسياساتها العامة والضوابط المفترضة، أمثولةً رائعة في الوعي والالتزام، وفي الفهم والبصيرة، وأثبتوا للعدو والصديق معاً، أنهم صفٌ واحدٌ، كلمتهم واحدة، وقيادتهم مشتركة، وفعالياتهم منظمة، وجهودهم منسقة.
مسيرة مليونية الأرض والعودة التي توجت العام الأول من المسيرة، وخطت يومها الأول من عامها الثاني، لم تكن نسيج وحدها، ولم تختلف عن سابقاتها، بل تشابهت مع غيرها واتسقت مع سواها، ومضت على ذات النهج، وتطلعت إلى نفس الأهداف، وخاض غمارها الأهل أنفسهم، وأمَّها سكان القطاع كعادتهم، ولكن لأنها كانت تمثل قمة المسيرات الأسبوعية، فقد شكلت علامةً فارقةً كونها الذكرى السنوية الأولى، واستطاعت بسلميتها المقصودة والمعلنة أن توجه رسائل عديدة، وأن تؤسس لمفاهيم جديدة، وقد وزعت المسيرة رسائلها في كل الاتجاهات، ولم تستثنِ من مراسلتها أحداً، وبات على جميع المتلقين أن يعوا الدروس، وأن يفهموا المراد، وأن يحسنوا الرد عليها والتعامل معها.
أَمَّ مسيرة العودة في يوم الأرض حشودٌ ضخمةٌ جداً من المواطنين، وأعدادٌ غفيرةٌ من مختلف الفئات العمرية ومن الجنسين معاً، إذ لبى أغلب سكان قطاع غزة الدعوة إلى المشاركة، وجاؤوا من كل حدبٍ وصوبٍ إلى نقاط التجمع على امتداد الحدود الشرقية للقطاع، وجاء المقعدون والأصحاء، والأغنياء والفقراء، والموظفون والعمال، ورسموا بتلاوينهم المناطقية والحزبية والعمرية والاجتماعية أجمل صورةٍ لشعبٍ حرٍ ثائرٍ ينشد حريته، ويبحث عن كرامته، ويتطلع إلى عزته، وقد كانوا جميعاً على موعدٍ مع نداء الله أكبر لصلاة الظهر، لينطلقوا من بعد الصلاة أفواجاً وجماعاتٍ، وفرادى وزرافاتٍ، وقوافل ومجموعاتٍ، كلٌ إلى المكان المحدد، دون أن تسجل أي مخالفاتٍ، أو تظهر بينهم أي اختلافاتٍ، فقد كانوا يدركون أنهم اليوم محط أنظار العالم كله، الذين يرقبون مسيرتهم، ويتابعون حركتهم، ويرصدون ردود أفعالهم وينظرون بم يرجعون، الأمر الذي أصابهم بالذهول والصدمة لعظم المسيرة، وتزايد أعداد المشاركين فيها، وتدافعهم إليها ساعةً بعد أخرى.
غصت مليونية الأرض والعودة كبقية أيام الجمعة التي سبقت على مدار عامٍ كامل، بالصور الوطنية والمشاهد الشعبية، واللوحات الفولكلورية التي فاجأت الجميع بتنوعها وتعددها، إلا أن علم فلسطين قد ساد وانتشر، فلم تنافسه راية، ولم تزاحمه شارة حزبية أو فصائلية، بينما تنافس المشاركون، رجالاً ونساءً في إظهار إبداعاتهم وعرض ابتكاراتهم، فتعددت الصور والمشاهد، والألعاب والعروضات، والدروس والخطب، والكلمات والمحاضرات، والرسوم والمخطوطات، وغيرها من الفنون التي تبدي قدرة هذا الشعب العظيم على البقاء، وتبرز حبه للحياة، وسعيه الحثيث للعيش الكريم والحياة العزيزة، بعيداً عن ذل الحصار وجور الاحتلال.
أكد الفلسطينيون في مليونيتهم العتيدة أن مسيرة العودة توحد صفوفهم، وتجمع شعثهم، وترص صفوفهم، وتقوي عزمهم، وتجمل صورتهم، وتعزز مقاومتهم، وتظهرهم أمام أنفسهم وغيرهم، أنهم يستحقون الحرية ويستأهلون الحياة الحرة الكريمة العزيزة، فهم في المسيرة سواء، يتساوون ولا يتميزون، ويتماثلون ولا يختلفون، ويتفقون ولا يتناقضون، إلا أنهم يقدرون قيادتهم ويثقون في هيئتهم، ويمضون خلفهم جنوداً صادقين، وبذا يحسنون إعادة رسم صورة شعبهم، ويبدعون في عرض قضيتهم بصورةٍ لائقةٍ تبعث على التقدير والاحترام.
أثبت الفلسطينيون المجتمعون على صعيد الحدود الشرقية لقطاعهم المحاصر، إصرارهم على العودة إلى الوطن واستعادة الأرض، مهما كلفهم ذلك من ثمن، أو عرضهم إلى محنٍ، فهم أصحاب الحق وأهل الأرض، لن يفرطوا فيها ولن يساوموا عليها، ولن ينسوا حقوقهم فيها ولن يخونوا دماء شهدائهم عليها، فهم يذكرون ديارهم ويحفظون بلداتهم، ويرثون من آبائهم وأجدادهم مفاتيح بيوتهم، وعناوين دورهم وبساتينهم، ويحفظون وصية السابقين وأمل الراحلين بحفظ الأرض والتزام الوعد.
وقد بينت الأحداث ومسيرة العودة أنهم صُبُرٌ في الحرب وصُدُقٌ عند اللقاء، لا يردهم قتل، ولا يصدهم جيشٌ، ولا يمنعهم قناصةٌ أو غارةٌ، ولا يجدي معهم التهديد ولا ينفع عدوهم معهم الوعيد، وهم على العهد ماضون وعلى مسيرتهم يحافظون، يغذونها بالدماء، ويجددونها بالفعاليات، ويسلطون الأضواء عليها بالابتكارات، حتى تتحقق أهدافهم أو تتحرر أرضهم، وينتزعون حقوق شعبهم المشروعة، ويعودون جميعاً إلى ديارهم وأرضهم المسلوبة، وقد عقدوا العزم بمسيرتهم وأدواتهم النضالية الأخرى، أن يسقطوا كل المؤامرات التي تحاك ضد قطاعهم الحبيب، أو ضد القضية الفلسطينية عموماً، أياً كانت قوة المتآمرين ومكانتهم الدولية.
لعل الكيان الصهيوني ومعه الولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص، والعالم كله على وجه العموم، باتوا يدركون من هو الشعب الفلسطيني وماذا يريد، وما إذا كان على استعداد لتقديم المزيد والتضحية بالجديد، في سبيل حقه واستعادة وطنه، فهذه المسيرة الوطنية تعيد رسم الإنسان الفلسطيني ذي العزم والقوة، وصاحب العزة والهمة، المتطلع إلى الوطن والحرية، والمتفائل بالعودة والتحرير، والواثق بالنصر والتطهير، والموعود يقيناً باستعادة القدس والصلاة في المسجد الأقصى مهما طال الزمن وقوي العدو وقل أو ضعف النصير.
وعد الفلسطينيون بأن يشعلوا الأرض بركاناً فأشعلوها لهيباً، وتحدوا العدو أن تكون مسيرتهم مليونيةً وقد كانت كما أرادوا وأكثر، والتزموا بأن تكون سلميةً مدنيةً لا فعاليات خشنةً فيها ولا احتكاك مستفزٍ يتخللها، ولكن العدو غدر بهم وأساء إليهم، كعهده الغادر دوماً وطبيعته الكاذبة أبداً، فقد استهدف متظاهرين عمداً وقتل أربعةً قصداً، ورغم ذلك فلسان حال الفلسطينيين يقول لعدوهم أننا لن ننكسر أبداً، ولن نستسلم وعداً، وسننتصر عليك حتماً، فنحن أمةٌ موعودة بالنصر أو النصر، وشعب لا يعرف الهزيمة ولا يقبل بالفشل، ولا يقيم وزناً للضعف أو العجز، وقسماً بأن تنتصر غزة على محاصريها، وأن ينتقم أهلها من قاتليها، وأن يعود أبناؤها إلى ديارهم وبلداتهم.


بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 31/3/2019
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
[email protected]