أمهات فلسطينيات كثيرات تحدثن عن معاناتهن مع الاحتلال. وأخريات ترى المعاناة مرسومة على وجوههن، وقلوبهن تعتصر ألما دون أن يتحدثن. وان تحدثت إليهن تسمع نبرات أصواتهن ممزوجة بالألم. أمهات يتعالين على جراحهن العميقة، ويخفون عنا حزنهن وآلامهن الكبيرة، بابتسامتهن العريضة، وكبريائهن المعهود، وصلابتهن المعتادة. والحاجة لطيفة ناجي "أبو حميد" وكنيتها "أم يوسف"، أو "أم ناصر" كما يحلو للبعض مناداتها، هي واحدة من أولئك الأمهات. فما أعظم هذه الأم حين تكون قامتها بحجم السنديان شموخاً وصلابةً. فهي أمنا ونحن نفخر أن نكون أبنائها.
أحرص دوما على التواصل معها. وقد اتصلت بها اليوم لأطمئن عليها، وعلى أبنائها الستة المعتقلين في سجون الاحتلال. فكانت كما كل مرة. صلبة وقوية. كثيرة الحمد. قليلة الشكوى. فيما تلمست في نبرات صوتها ألم شديد ووجع عميق، كما في المرات السابقة وأكثر. أخبرتني ان اليوم يصادف الذكرى الخامسة والعشرين لاستشهاد نجلها "عبد المنعم"، وبعد أيام قليلة ستصدر احدى المحاكم العسكرية الإسرائيلية حكمها المؤبد (مدى الحياة) بالإضافة الى ثماني سنوات بحق ابنها الأسير "إسلام". وسلطات الاحتلال تواصل تكبيل حركتها وتمنعها من التنقل وترفض السماح لها بالسفر، وتصر على مصادرة حقها الانساني في زيارة أبنائها القابعين في سجون نفحة وعسقلان وهداريم وعوفر بذريعة أنها تشكل خطراً على "الأمن". وبيتها الذي هدمته جرافات الاحتلال للمرة الثالثة قبل بضعة شهور، مازال ركاماً ينتظر من يعيد بناءه.
أم يوسف. عرفتها منذ سنوات طوال، وسمعت عنها مراراً، وقرأت فصولاً من معاناتها مع الاحتلال، وتابعت مسيرة أبنائها مع المقاومة والسجون. والتقيتها ذات مرة عام2013، حينما زرنا بيروت للمشاركة في فعاليات وأنشطة مساندة للأسرى وقضاياهم العادلة. فاقتربت منها خلال الأيام الثمانية التي قضيناها سوياً، واستمعت إليها كثيراً، وشاركتها اللقاءات مراراً، فكانت كما سمعت عنها وأكثر. فازددت فخراً بها وتقديرا لها، وحرصت على التواصل معها.
الحاجة لطيفة ناجي (71عاما)، والمعروفة بـ "أم ناصر أبو حميد" فلسطينية لاجئة من قرية أبو شوشة، قضاء الرملة، وهاجرت مع العائلة اثر النكبة عام 1948 الى غزة وأقامت في مخيم النصيرات وسط القطاع، وفي العام 1967 وعلى وقع هزيمة حزيران انتقلت للعيش في الضفة الغربية بعد أن تزوجت محمد يوسف ناجي "أبو حميد" وأنجبت منه ثلاثة أطفال، ليستقر بهم المقام في مخيم الأمعري للاجئين وسط مدينة رام الله، وتنجب المزيد من الأبناء.
لدى أم ناصر، ابنتان، وعشرة من الأبناء الذكور، ذاق جميعهم مرارة الأسر، جماعة وفرادى، وبعضهم اعتقل مرات عدة. وأن أحدهم واسمه "عبد المنعم" اغتالته قوات خاصة إسرائيلية في الواحد والثلاثين من آيار/مايو عام1994.
ستة من أبنائها يقبعون اليوم في سجون الاحتلال، وقد اعتقلوا على خلفية مقاومتهم للاحتلال والانتماء لحركة "فتح"، ويقضي أربعة منهم أحكاماً بالسجن المؤبد (مدى الحياة) لمرة أو لمرات عدة، وهم: "نصر" محكوم بخمسة مؤبدات، ومحمد محكوم مؤبدين وثلاثين عاماً، و"شريف" محكوم أربعة مؤبدات، وثلاثتهم يقبعون في سجن عسقلان، فيما "ناصر" المحكوم بالسجن سبعة مؤبدات وخمسين عاماً يقبع في سجن نفحة. وخامسهم "اسلام" والموجود في سجن هداريم فلقد تم تحديد جلسة لمحاكمته في 12 حزيران/يونيو القادم ومن المتوقع صدور حكم المؤبد وثماني سنوات بحقه. أما السادس "جهاد" فيقبع في سجن النقب رهن الاعتقال الإداري حيث جدد له ثلاث مرات متتالية. وقد توفى والدهم محمد يوسف أبو حميد "أبو يوسف" صباح يوم السبت الموافق 13كانون الأول/ديسمبر2014.
تنقلت الحاجة "لطيفة" خلال خمسة وثلاثين عاما بين سجون الاحتلال، منتصبة القامة، مرفوعة الهامة، فحفظت أسماء السجون ومواقعها، وباتت دائمة الحضور على بواباتها وعانت الكثير من المشاق والتعب خلال تنقلها. أما اليوم فمعاناتها تزداد جراء منعها من الزيارة وحرمانها من رؤية أبنائها.
هدم بيتها ثلاثة مرات من قبل قوات الاحتلال، وكان ذلك عام1994، وفي العام2002، فيما المرة الثالثة كانت منتصف كانون أول/ديسمبر عام 2018. ومع ذلك فهي لا تعترف أن الأحلام تُدفن ان هدمت البيوت واعتقل أصحابها وهُجر ساكنيها. وفي كل مرة كانت تهدم فيها قوات الاحتلال بيتها، تقف "أم ناصر" على الجانب الآخر تردد بشموخ: اهدموا بيتنا، فلن تنهار ارادتنا ولن تُهدم عزيمتنا. نحن باقون هنا، وسنعيد بناءه من جديد.
الحاجة لطيفة أبو حميد. سنديانة فلسطين التي لا تنحني، وهي ذاك الشموخ الذي لا ينتهي. أطال الله في عمرها وأمدها بالصحة والعافية. وفرج الله كرب أبنائها الأسرى، وجمعها بهم في رحاب الحرية. اللهم آمين يارب.
بقلم / عبد الناصر عوني فروانة
عضو المجلس الوطني الفلسطيني
أسير محرر وكاتب مختص بشؤون الأسرى
رئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الاسرى