بعد قرابة سنة من بدء المواجهة بين العملاقين الاقتصاديين، صعّدت بكين من لهجتها إزاء واشنطن وأعلنت أخيراً (6/6)، أنها «ستنشر قريباً» تفاصيل عن لائحتها السوداء التي تطال «الشركات الأجنبية أو المنظمات والأفراد غير الموثوق بهم»، الذين سيتوقفون عن تزويد الشركات الصينية بما تحتاجه، وذلك في إطار ردّها على الولايات المتحدة و«الحرب التجارية» التي أعلنتها إدارة البيت الأبيض ضدّها منذ نحو عام.
وقد تصاعدت التوترات التجارية بين العاصمتين في منتصف أيار/ مايو الماضي، بعد اتهام إدارة الرئيس دونالد ترامب الصين بالتراجع عما أسماه «وعود سابقة» بإجراء «تغييرات هيكلية في ممارساتها الاقتصادية». وفرضت بعدها رسوماً جمركية إضافية وصلت إلى 25% على سلع صينية تبلغ قيمتها 200 مليار دولار، قبل أن تضع أخيراً شركة «هواوي» الصينية للاتصالات على قائمة شركات يشتبه بقيامها بالتجسّس، لتصبح بالتالي محرومة من شراء معدات تكنولوجية أميركية عالية التقنية، ما شكل ضربة قاسية لهذه الشركة التي تحتاج إلى تلك «المعدّات» لتزويد هواتفها الخليوية بها.
هجوم مضاد
وردّت الصين على ذلك بزيادة رسومها على بضائع أميركية تصل إلى نحو 60 بليون دولار. وحذر الناطق باسم وزارة التجارة الصينية من أنه إذا استمرت الولايات المتحدة في تأزيم التوتر التجاري، فـ«ستتّخذ الصين تدابير ضرورية لتدافع بها عن مصالح البلاد والشعب»، مُلمّحاً إلى أنّ حكومته «يمكن أن توقف تصدير المعادن النادرة، ما يحرم واشنطن من مواد رئيسية تدخل في صناعة الكثير من منتجات التكنولوجيا المتقدمة». علماً أنّ الصين تنتج أكثر من 95 % من المعادن النادرة في العالم، وتعتمد الولايات المتحدة عليها فيما يزيد عن 80 % من واردتها من هذه المعادن.
وأشار وزير الدفاع الصيني وي فينغ إلى أنه إذا كان مؤسس «هواوي» رين تشينغفي مهندساً سابقاً في الجيش، فإنّ هذا «لا يعني أنها مؤسسة عسكريّة، أو أنها جزءٌ من الجيش»، وذلك ردّاً على اتهام وزير الدفاع الأميركي بالوكالة، باتريك شاناهان، بأنّ «هواوي مقرّبة جداً من الحكومة الصينيّة، ما يجعل من الصعب الثقة بها»!.
وخلصت بكين إلى أنّها تعتبر أن «التعاون هو الخيار الوحيد الممكن مع واشنطن»، لكنها أكدّت في الوقت ذاته أنها «لن تساوم على المبادئ الأساسية»، منوّهة إلى أن الاتهامات التي ساقتها واشنطن بشأن سرقة الملكية الفكرية «لا أساس لها إطلاقاً».
الذرائع الأميركية
وإلى ذلك، تتحدث الولايات المتحدة عن العقبات التي تواجهها الشركات الأجنبية التي تعمل في الصين، مثل إلزامها بنقل التكنولوجيا والدعم الحكومي المالي إلى الشركات العامة. كما دعت الولايات المتحدة الصين إلى الحدّ من نموّ شركاتها المملوكة للدولة، وهو طلب اعتبرته بكين «تدخلاً في سيادتها الاقتصادية، ومؤشراً إلى الغطرسة في المطالب الأميركية». وقالت وكالة الأنباء الصينية الرسمية «شينغوا»: «هذا أمر يمسّ النظام الاقتصادي الأساسي للصين، وهو يُثبت أنّ الولايات المتحدة تحاول من وراء حربها التجارية غزو السيادة الاقتصادية الصينية وإجبار الصين على أن تُلحق الضرر بمصالحها الأساسية».
وفي المقابل، قال خبراء ومحللون غربيون إن «المؤسسات المملوكة للدولة في الصين لا تحظى فقط بدعم صريح، وإنما أيضا بمزايا خفيّة مثل الضمانات الحكومية الضمنية للديون والفوائد المُخفّضة للقروض المصرفية».
عناصر خفية في الصراع
وتشير التطورات المتلاحقة في الحرب التجارية الدائرة إلى أنّ هذه المواجهة تتعدّى حدود العناوين المطروحة؛ مثل حظر التعامل مع «هواوي» ومحاولة فرض شروط أميركية لإبرام اتفاق تجاري بين البلدين، على رغم أنّ أزمة هواوي، هي في الأساس «حربٌ على قيادة تكنولوجيا الجيل الخامس للاتصالات في العالم»، وبالتالي يكمن خلفها ما يشبه «الحرب الباردة لمنع الصين من الاقتراب من الخطوط الحمر للهيمنة التكنولوجية»، التي ظهرت بوادرها في كثير من القطاعات المهمة؛ من صدارة الصين لسباق الأتمتة والروبوتات الخارقة والذكاء الصناعي والتكنولوجيا الحيوية، في وقت وضع فيه الرئيس الصيني شي جينبينغ هدف «التفوق التكنولوجي وتطوير منتجات الذكاء الصناعي في صدارة أولويات بكين». ويبدو أن واشنطن لا تريد للصين أن «تمتلك الحلقات التكنولوجية العليا، التي يمكن أن تحسم جميع توازنات القوى في المستقبل، ومن ضمنها الصناعات العسكرية»، كما يرى بعض المحللين.
ويخلص هؤلاء إلى اعتبار أنّ الحرب التجارية الدائرة الآن، هي «مجرد مقدّمة لنزاع أكبر بكثير بين الدولتين صاحبتي أكبر اقتصادين في العالم»؟! فالاقتصاد الصيني الذي يُعدّ ثاني أكبر اقتصاد على مستوى العالم، أصبح منافساً حقيقياً لنظيره الأميركي، وخاصة بعد أن بات الميزان التجاري بين الدولتين - الذي يُقارب نصف بليون دولار سنوياً – يميل لصالح الصين، بفارق كبير.
أيّ أنّ هذه الحرب، كما يقول المحللون، هي جزء من حرب أكبر بين القوة العظمى، التي تحاول البقاء في قمة الهرم العالمي، وقوة صاعدة تنافسها على الريادة، بعد أن نجحت في قطع أشواط هامة على هذا الطريق منذ أن أصبحت القوة التجارية الأولى في العالم، بعد إعلانها بأن حجم مبادلاتها التجارية السنوية تجاوز في عام 2013 للمرة الأولى حاجز 4 تريليونات دولار.
أسباب للقلق الأميركي
وعلى سبيل المثال، هنالك قلقٌ أميركي واضح من المشروع الصيني الضخم المعروف بمبادرة «الحزام والطريق»، أو ما يُعرف بــ«طريق الحرير الجديد»؛ الذي يرى فيه البعض «محور الارتكاز في الصراع التجاري الناشب حالياً بين الدولتين». فهو يُفترض أن يمرّ عبر 56 دولة، وافقت 50 منها حتى الآن على المشاركة فيه. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الدول التي وافقت على المبادرة الصينية، لا تقتصر على «دول العالم الجنوبي»، بل بينها دول موجودة في «الجانب الشمالي» من العالم، مثل إيطاليا، التي تأتي ضمن الدول السبع الكبرى اقتصادياً، وتُمثل ثالث أكبر اقتصاد داخل الاتحاد الأوروبي؛ بما يعني أنّ انضمامها يُعدّ نصراً كبيراً بالنسبة إلى الصين.
كما أنّ مبادرة «الحزام والطريق»، التي ستُكلف قرابة تريليون دولار كـتقدير مبدئي، تشمل مدّ خطوط سكك حديد وشق طرق سريعة وبناء مرافئ في القارات الثلاث التي يتوخّى المشروع أن يربط بينها؛ (آسيا وأوروبا وإفريقيا)، بمعنى أنّ بكين تطمح من وراء مشروعها «أن تُغير وجه الاقتصاد العالمي»، و«إنشاء منظومة عالمية للاقتصاد الدولي خاصة بها وقيادتها، بما يمثله ذلك من مؤسسات دولية جديدة وبديلة لكل المؤسسات الغربية، أو الأميركية بالأحرى، وعلى رأسها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي».
وهكذا، نجد الآن أنّ التوتر بين العملاقين يزداد حدّة حول كل شيء؛ بدءاً من التجارة إلى التكنولوجيا إلى التأشيرات والأمن القومي والمناخ والتسلح، وصولاً إلى السباق نحو الفضاء، بل إن الصين أصبح لها دور سياسي وقرار مؤثر في مناطق استراتيجية في العالم، ولم تعد تكتفي بدور المتفرج الذي يحضر اقتصادياً فقط، بل يتنامى حتى حضورها العسكري وخصوصاً في بحر الصين الجنوبي، إضافة إلى العديد من المناطق الآسيوية والأفريقية الأخرى، وصولاً إلى شواطئ البحر الأحمر، عبر قاعدتها العسكرية التي أنشأتها في جيبوتي.
وإلى ذلك كلّه، يضيف بعض الخبراء «الدور الصيني في تمويل الدين الأميركي، عن طريق شراء أذونات الخزانة والسندات الأميركية»، إذ أن الصين تقود «الائتلاف» المموِّل للدين الأميركي، فضلاً عن كونها اللاعب الرئيس في سياسة «سدّ العجز لدى حكومة واشنطن». ما يعني أنّ بإمكان حكومة بكين تقليص عمليات شراء أذون الخزانة الأميركية، في حال زيادة الضغوط عليها، وأقلّه، أن سندات الخزانة الأميركية وأذونها، ستكون «ورقة تفاوضية في يدها، يمكن أن تساعدها على تخفيف الغلواء والغطرسة الأميركية، وتهدئة الأمور تمهيداً لإنجاز اتفاق تجاري مقبول مع الولايات المتحدة، بدلاً من الاندفاع إلى التصعيد الحاصل الآن»؟!.
بقلم/ فؤاد محجوب