كان ينبغي أن أكون مع كوكبة من شعراء فلسطين الجمعة الماضية بدعوة من مؤسسة محمود درويش في الداخل الفلسطيني المحتل، لكن كالعادة وكما حصل في دعوة سابقة الى القدس المحتلة، أواجه مماطلة في الحصول على تصريح الدخول الذي لن يعني الكثير لجندي على الحاجز اذا ما اراد ان يمنع عبوري لزمن الاجتزاء والبتر المعنون "حدود العام 1967". فلماذا أتطرق الى واقع نعيشه بتفاصيل كما أستاذ للصف الأول؟ ولماذا ينبغي أن نكتب تاريخ الفلسطيني حرفا ونبضا حدثا حدثا؟ وكيف يمكن أن تظل قضية فلسطين حاضرة في مواجهة كي وعي مزودج أدى الى تحولات ثقافية هائلة تجاهها وانقلاباً في مفهوم أدوار البطولة تجاهها ونحو خلق "العربي الجديد"؟.
للاجابة عن سؤال الحاضر، يلزمنا العودة الى التاريخ، حيث سعت الصهيونية في حربها على الحق والوجود الفلسطيني الى خلق مشروع ثقافي مواز يستند الى بروباجاندا دينية، ضمن محددات أخرى، الا أن العمل على احداث تحولات ثقافية في بنى التفكير تجاه شرعنة المشروع الصهيوني كانت أحد أدوات وأهداف الاختراق الفكري والثقافي الذي تم تجنيد المستعمرين الجدد داخليا لكتابته برؤية استشراقية مثل يغئال ألون في كتابة "في بيت أبي" وصولا الى الكتاب والمبدعين في الغرب، والذين تم تجنيدهم لتبني التحولات الفكرية والثقافية الجديدة أدبيا وبحثيا وشعريا واعلاميا وفنيا وصولا الى تجريم من يجرؤ على المساس بالثوابت الفكرية المهجنة لهذا المشروع بل واتهام الساميين أنفسهم باللاسامية ضمن اجراءات أخرى ليس أقلها سحب المؤلفات وشن الحملات الاعلامية على أصحاب الفكر المخالف في بلاد "ديموقراطية".
والان، وفي زمن التبادل الثقافي الالكتروني الحر، وليس بعيدا عن البروباجاندا الاسرائيلية التي تروج لدولة الاحتلال كواحة في خضم واقع عربي مضطرب وغير مستقر وفقير - وهي، والخطاب للمهاجمين والمطبعين الذي ما زالوا لم ينكروا وجود الشعب الفلسطيني على الأقل- نفس الآلة الدعائية التي روجت في اطار التحولات السابقة الذكر الى أن فلسطين أرض بلا شعب، نجد أن المقولة الثقافية الاسرائيلية تخترق الحدود والعقول، لكن أية عقول ومن الذي يروج لها على أنها اعلامية او ثقافية أو مؤثرة خارج اطار تبينها للتحولات المرفوضة والمثيرة للجدل وخارج اطار الاجماع العربي الوطني على ثوابته وقضاياه،، الشمري نموذجا فرديا؟
ليس عبثا استخدامي لمصطلح "العربي الجديد" لوصف القرامطة الجدد، ففي الوقت الذي كان الفلسطيني يقاتل على جبهة مواجهة الأسرلة وكي الوعي من خلال التصدي بكل الأدوات الى التأريخ المهجن، يتساوق البعض مع مشروع الاحتلال الرامي لاعادة أدلجة الوعي العالمي والعربي وباتجاه التهجم على الشعب الفلسطيني قيادة وقضية وتاريخا ومقدسات، وباتجاه دعم الانقلاب وتبرير ذلك بما لا تبرأ أمة أو قيادة منه: الفساد، والذهاب نحو التخوين والتشكيك، بل والذهاب أعمق باتجاه قراءة جديدة صادمة ومشككة لتاريخ النضال الفلسطيني لما يقارب 70 عاما تقدمها مراكز ابحاث ومواقع ومن خلال محاضرات وعبر مقالات تروج "للعربي الجديد" بتوافقية فكرية مع الاحتلال او أفراد يساهمون في نسف المقولات التاريخية والمقدسة والشهادات التي نجت من مشروع القتل والتصفية الاحتلالي من خلال التهجم والانكار والتسفيه والتمنن.
القاسم المشترك بين المقولتين الصهيونية ومقولة العربي الجديد تكمن بالاساس في سعيهما حثيثا الى نسف الوعي واجتراح مقولات ثقافية تراهن على نسيان القضية كما في مقولة "الاباء يموتون والابناء ينسون" او تقوم على تشويه الحقائق وخلق فكر مصاب بقصر الثقافة والنظر يحرك الوعي العربي الراكد، لأن انحسار الفعل الثقافي واجهة لانحسار الفعل الوطني العروبي، ولأنه كان يمكننا وما نزال أن نواجه حالة التغييب الممنهجة بحضور الثقافة والرواية والقضية والمعرفة خارجا واحضارها الينا ورفد الخارج بخطاب اعلامي واضح يقدم اجابات للاسئلة ذات العلاقة بقضيتنا - وهذا مشروع كبير سأعمل على الكشف عنه بشكل منفصل في مقالات وسياقات ذات علاقة - ولأنه كان يمكننا وما زال التأكيد على أن المقولة الثقافية كانت وما تزال هي الحاضنة الآولى لكل فعل تحرري، كما انها المقولة الاشمل والاقوى في وجه تحولات الادوار بين العربي والصهيوني في زمن الاختراق الثقافي واعتبار القضية الفلسطينية عبئا فائضا عن الحاجة وهي بالاساس كما نلاحظ كمثقفين فائضة عن الفهم والمعرفة ومُخرجا طبيعيا لتراجع المقولة الثقافية وانحسارها لصالح الثقافات الدخيلة والمهجنة والطارئة والمشبوهة.
للمقولة الثقافية التي نحتاج الى أن يسندها حلم بقدمين فلسطينينين حروبها الدائمة مع معدومي الثقافة وأدعياء المعرفة، ومعنا، نحن سدنة الوعي والكلمة والفكرة والوطن، وحراس ناره ومقولته الناجزة وامتداده الذي يمتلك مشروعا يؤمن بالثقافة حاملا موضوعيا لمواجهة حالة التردي والاصطفافات التي تبيح تاريخ الفلسطيني ومستقبله، تلك الحرب التي لها أدواتها بعيدا عن الرد بالمثل او التذكير بتاريخ مشرف كان لفلسطين السبق فيه لدعم شعوب ما قبل النفط الذي لم يغير أمما من الأحرار، الكويت وقيادتها نموذجا غير حصري، وبعد النفط والنكبة والنكسة بما ضخ في الوجدان والثقافة العربيين من الفكر والثقافة والمعرفة والعلم والوجود وتحت مظلة أن القضية الفلسطينية خط أحمر وأنها قضية سياسية هدفها التحرر من الاحتلال واقامة دولة بدعم من أحرار العالم، أينما كانوا قانونياً وانسانياً وسياسياً ثم بشكل تلقائي، مالياً.
ما زال لدينا ما نقوله على الجبهة الثقافية التي أصبحت في زمن الردة ثغرة اختراق للقضية الفلسطينية، كما أنها ما زالت أيضا طريقا ممكنا لفعل معاكس، ومشروع وطني نقوم بتوظيفه في اطار رؤيتنا الواضحة لأهمية الثقافة في خلق الوعي وتجذيره لدى مثقفين وكتاب وسياسيين عرباً ودوليين لأجل فلسطين قضية وقيادة وشعبا. الفعل الثقافي هو الفعل الاوحد الذي يخترق الحدود دون جواز سفر ودون اذن الا في فلسطين، حيث الاحتلال الاسرائيلي الذي يمنع الفعل الثقافي الحر من التنقل والتواصل والتكامل مع أهله بوعيه وقفافته وذاكرته.
اذا كانت دولة الاحتلال الاسرائيلي تبنت مقولة أن العربي الجيد هو العربي الميت طوال سنوات، فانها تتبني بشكل مواز مقولة أن العربي الجيد هو العربي الجاهل، ومن هنا نؤكد أنه لم يعد لدينا خيارات سوى الثقافة والوعي والمزيد منهما لكن ضمن مشروع رؤيوي يجب أن لا نتأخر عنه.
بقلم/ نداء يونس