منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة ومسار التضحيات والصمود متواصل في سيمفونية جميلة تكرس عظمة الملحمة الفلسطينية التي ما زالت متواصلة منذ اكثر من مائة عام في مواجهة المشروع الصهيوني والاستعماري. ورغم ما تعرض له الشعب الفلسطيني من ضربات سياسية تكفي الواحدة منها لمحو شعوب وبلدان من خريطة العالم والتاريخ، لكن الذي حدث هو خروج المقاومة من تحت رماد النكبة والهزيمة، ليأخذ الشعب قضيته بيده وينتفض على واقع فلسطيني وعربي ودولي ظل عاجزا عن تقديم اجابات شافبة لمرحلة ما بعد النكبة، فكانت الولادة الثانية لمنظمة التحرير الفلسطينية في العام 1969، التي نهض بها الشعب وفصائله المقاومة التي اتخذت زمام المبادرة الميدانية في مواجهة مشاريع تصفية القضية الفلسطينية والسعي لتحويل الشعب المشرد بفعل المجازر والمذابح التي ارتكبتها العصابات الصهيونية وعملية التطهير العرقي التي مارستها وتدمير القرى وسرقة الأراضي والممتلكات ورسم ملامح جديدة مصطنعة بصفقة امبريالية صهيونية ورجعية عربية الى كتل من المنسيين ومعدومي الهوية والتاريخ والحضارة، الذين أضحوا خارج خارطة العالم الحديث..
لم تكن عملية إستعادة الهوية الفلسطينية، كهوية تاريخية وجزء لا يتجزأ من منظومة الهويات ذات الابعاد الثقافية والحضارية والتاريخية في المنطقة، عملية سهلة وبسيطة، ولم تأت على طريق مفروش بالورود والحرير او نتيجة تسليم العدو والعالم بالاحقية التاريخية للشعب الفلسطيني في ارضه وتاريخه وبحقه في امتلاك هوية وطنية متمايزة عن المحيط، بل معارك الهوية بكل تفاصيلها ومراحلها لما يمثله الاعتراف باستقلالية الهوية الوطنية الفلسطينية وتمثيلها السياسي من أبعاد تمكن الشعب الفلسطيني من تعريف ثورته بالمفاهيم التي تخدم مصلحته الوطنية والتي تشكل الهوية الوطنية الفلسطينية المستقلة بكل ما تعنيه من استقلالية ثقافية وحضارية وسياسية من معنى، والتي تحرر بإستقلالها العنق الفلسطيني من سلاسل التبعية العربية الرسمية التي لا تنظر للفلسطيني ومنذ النكبة إلا من الزاوية الأمنية..
وبوعي مبكر أدركت الحركة الوطنية الفلسطينية أهمية هذه الاستقلالية السياسية التي كانت تعتبر أداة التكتيك السياسي الأسلم في صياغة البرامج الوطنية ولتأخذ دائما في الحسبان المصلحة الفلسطينية، وسباق الشعب الفلسطيني المتواصل مع الزمن لتثبيت وجوده وانتزاع اعتراف العالم بحقه في الحرية وتقرير المصير والعيش في دولته المستقلة كاملة السيادة. هذه الحركة الوطنية لم تنج، ومنذ انطلاقها، من المزاجية السياسية العربية التي تحكم علاقة هذا النظام او ذاك مع الملف الفلسطيني، وهي حاولت، بل حاربت وعلى اختلاف تناقضاتها ان تمسك بالورقة الفلسطينية او ان تكون العواصم العربية على اختلافها منبرا للصوت الفلسطيني المكبل، الذي كان مطلوبا منه ان لا يكون سوى صدى للحاكم وللنظام الرسمي بمعزل عن مصلحة الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية ومشروعها الثوري، حتى بات أحد اهم المطالب الفلسطينية وعلى امتداد عقود من
الزمن أن يكون القرار الوطني الفلسطيني المستقل والصوت الفلسطيني والتمثيل الفلسطيني خارج أي تجاذبات إقليمية او دولية، للقناعة التامة بالمخاطر التي تترتب على تسويق الورقة الفلسطينية وتمثيلها السياسي على طاولات الحلول او النزاعات الإقليمية والدولية...
منذ أن بدأت الإدارة الامريكية الجديدة برئاسة دونالد ترامب وفريقه المتطرف ذو العقلية الاستعمارية بقيادة جاريد كوشنير وبمباركة عراب المستوطنين الإسرائيليين ديفيد فريدمان، اللذين يسعيان وبكل حماس الى ان يكونا جنودا امناء للفكر الصهيوني المتحالف مع بعض ادوات التطرف اليميني المسيحي في الولايات المتحدة الامريكية. واهدافهم المعلنة هي ترجمة حرفية للبرنامج الانتخابي الذي طرحه الرئيس ترامب في حملته الانتخابية وركز بصورة مباشرة على حل ملف الصراع العربي والفلسطيني الاسرائيلي بما ينسجم والرؤية الاسرائيلية لهذا الحل، فكان المشروع الامريكي الاسرائيلي الذي يعرف اصطلاحا بصفقة القرن، التي بدأت تطبيقاتها الميدانية على الارض بالإعلان عن القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده من تل أبيب للقدس واقفال القنصلية الامريكية واقفال مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن وقطع المساعدات بالكامل عن الشعب الفلسطيني خاصة مستشفيات القدس وإيقاف مشاريع تأهيل البنى التحتية في الضفة الغربية وقطع المساعدات عن وكالة الاونروا بهدف شطبها وبالتالي تصفية حق العودة للاجئين الفلسطينيين وإعادة تعريف اللاجئ بما يقود الى تخفيض عدد اللاجئين الى نحو 40 الف فقط وهم الذين، بنظر هذه الادارة، ما زالوا احياء واسقاط صفة اللجوء عن اكثر من 6 مليون فلسطيني من الأجيال التي ولدت بعد نكبة فلسطين الكبرى، وصولا الى الإعلان الرسمي عن الورشة الاقتصادية التي عقدت في العاصمة البحرينية المنامة بمشاركة عربية ودولية هزيلة..
بدأ الامريكيون، وحلفاؤهم من العرب والاسرائيليين، يتحدثون عن الفرصة التاريخية التي تنتظر الشعب الفلسطيني، وطرحوا طريق حرير فلسطيني ينوي مستشار الرئيس الامريكي كوشنير تعبيده خوفا على مصلحة الفلسطينيين وبهدف انقاذهم من عذاباتهم التاريخية وبرغبة تلفها المحبة لإنجاز سلام شامل ينهي عقودا من الصراع في منطقة الشرق الاوسط وبمباركة عربية رسمية تكاد تسمع صداها بأهازيج تفوق تلك التي يرقص على انغامها فريق الفاشية والقتل الصهيوني في تل أبيب بزعامة نتنياهو..
وقد ترافق ذلك مع المئات من المقالات والوعود والتباشير، التي تحاول تسويق الحل القادم المنوي طرحه وكأنه ختام الديبلوماسية والعبقرية السياسية لكوشنير، الذي وعلى ما يبدو قرأ الكثير في الاقتصاد والأرقام ورتب العديد من المشاريع الا انه تاه عن قراءة تاريخ أكثر من 100 عام من نضال الشعب الفلسطيني وحضارة تعود الى آلاف الأعوام قبل الميلاد. والاكثر غرابة هو التجاهل الكامل من قبل الإدارة الامريكية وبعض الأنظمة الرسمية العربية للموقف الفلسطيني الاجماعي، بيمينه ويساره، والذي أعلن بالتزامن مع بدأ تنفيذ مجمل تلك الخطوات العدائية، عن رفض الشعب الفلسطيني وقيادته لهذه الصفقة التآمرية وجميع مخرجاتها وما يترتب عليها، لما تمثله من اعتداء سافر على الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني وعلى طموحاته التي يناضل في سبيلها ويضحي بآلاف الشهداء والجرحى ومآت الاسرى، خاصة الموقف الرافض للمشاركة في الورشة الاقتصادية في البحرين، حيث لم يكتف الشعب الفلسطيني برفضها للمشاركة فقط بل وطلب من جميع الأنظمة العربية عدم المشاركة فيها ورفض عقد تلك الصفقة الاقتصادية التصفوية في
عاصمة عربية، إلا ان هذه الطلبات الفلسطينية قوبلت بمواقف تدعي الحرص على مصلحة الشعب الفلسطيني بل تنصب نفسها ناطقا باسم الفلسطينيين وكأن الشعب الفلسطيني فقد تمثيله ومكانته وقراره السياسي..
لماذا لم يستجب الزعماء العرب الذين شاركت دولهم في ورشة المنامة للرغبة الفلسطينية بعدم المشاركة، واعطت مواقف مؤيدة لصفقة القرن في تناقض واضح مع المطالب الفلسطينية، التي هي تنسجم مع موقف الحركة الشعبية العربية التي خرجت بالملايين في الشوارع العربية داعمة للشعب الفلسطيني ورافضة لصفقة ترامب، ما يدحض المزاعم الرسمية العربية التي باتت تتعاطى مع اسرائيل باعتبارها دولة طبيعية في المنطقة او ان اولوية شعوبنا العربية قضايا اخرى غير الصراع مع اسرائيل من نمط الصراعات الوهمية والمفتعلة في الكثير من الاحيان مع ايران..
يبدو ومع نهاية مؤتمر المنامة الاقتصادي، ان مهمة وطنية جديد تنتظر القيادة الرسمية الفلسطينية وهي إعادة تنشيط ذاكرتهم بما يتعلق بحساسية التمثيل الفلسطيني، واستخلاص الدروس من الآلية التي تم التعاطي بها مع هذه المسألة، خاصة لجهة إحتكار السلطة الفلسطينية للقرارات الوطنية والتمثيل الوطني من خلال ممارسة التفرد في إدارة الشأن الوطني داخل مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية والعمل على اقصاء الرأي الفلسطيني الوطني الجامع الذي شكل وعلى مدار سنين عدة درعا واقيا للشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية أمام جميع محاولات الالتفاف على تمثيله واستقلاله من جهة، ومن جهة أخرى الانعكاسات السلبية التي تركها الانقسام الفلسطيني الداخلي والذي اعطى الذريعة للكثيرين لكي ينصبوا انفسهم ناطقين باسم الشعب الفلسطيني، وهذا ما يضع أمام هذه القيادة مهمة عاجلة تبدأ بضرورة إعادة تصويب العلاقات داخل منظمة التحرير الفلسطينية وإعادة الاعتبار للمؤسسات الشرعية للشعب الفلسطيني كممثل لجميع القوى الفلسطينية المنضوية تحت منظمة التحرير الفلسطينية والتي ومن خلالها يستطيع الشعب الفلسطيني التسلح بخيار وطني جامع يلبي مصلحته وتطلعاته الوطنية، بإضافة لإعادة الاعتبار للبيت الفلسطيني الداخلي وانهاء الانقسام المدمر من خلال انجاز الوحدة الوطنية الفلسطينية وإعادة اللحمة بين الضفة الغربية وقطاع غزه، جغرافيا ومؤسساتيا.
إن الشعب الفلسطيني وقواه الوطنية ومن خلال منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وإنطلاقا من واقع الاحتلال وممارساته اليومية والنتيجة التي وصلت اليها الحالة الفلسطينية يستطيعون ان يحددوا خياراتهم ومواقفهم السياسية التي تلبي مصلحتهم الوطنية، وليسوا بحاجة لأن يتبناهم أحدا من الذين زعموا حرصهم على المصلحة الفلسطينية. فالمشكلة الأولى والأخيرة للشعب الفلسطيني اليوم هي مشكلة سياسية بحتة وإن المشروع الوطني الفلسطيني المتمثل بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من حزيران عام 1967 بعاصمتها القدس وعودة اللاجئين وفقا للقرار الاممي 194 هو الحل السياسي الوحيد الذي يقدمه الشعب الفلسطيني دونما أي إنتقاص من هذا الثالوث المقدس الذي كرسته دماء الشهداء وحصنته قرارات الشرعية الدولية
ان الشعب الفلسطيني الذي يئن تحت وطأة ممارسات الاحتلال الصهيوني لا يطمح لرغيف خبز زائد ولا لطريق مخصص للتمييز العنصري والمعبد بالاسمنت الأمريكي، هو يحتاج الى حل سياسي ينهي هذا
الاحتلال الجاثم على أرضه ويحقق له طموحاته بتقرير المصير والاستقلال والعودة وفقا للقرار 194. ولن يكون متفرجا على اخر المشاهد التراجيدية من مسرحية السقوط الأخلاقي المغلفة بالحرص على مصلحة الفلسطينيين والتي تلعب خلالها الأدوار جيدا على المسرح الأمريكي، والذي سينتهي عاجلا ام آجلا بإسدال الستائر على جميع المؤامرات التصفوية..
بقلم/ جهاد سليمان