ثبت ان رئاسة الولايات المتحدة لا تحتاج إلى رئيس عبقري، كما يتوقع المرء للوهلة الأولى كونها الدولة الأقوى في العالم، فهي بلا شك دولة مؤسسات عميقة يصعب تجاوزها بسهولة، لذا بغض النظر عن شخصية الرئيس أو عبقريته أو مستواه الثقافي والفكري، يكفي أنه ينصاع لمحصلة التجاذب القائم عادة بين مؤسسات إتخاذ القرار سواء في السياسة الداخلية أو السياسية الخارجية، يضاف إلى ذلك تأثير مجموعات الضغط و المصالح المختلفة على إتخاذ القرار لدى تلك المؤسسات الدستورية صانعة القرار في السياسات الأمريكية، وبغض النظر عن مدى صدقية (الصحافي مايكل وولف )فيما قدم في كتابه (النار والغضب) عن صفات وانجازات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في عامه الأول من رئاسته للولايات المتحدة، وعن عائلته الخاصة، و علاقة ذوي المصالح الخاصة مع الرئيس ترامب، العقاري والرأسمالي اليميني قبل أن يكون رئيساً للولايات المتحدة، ذلك ما يطبع سياساته الداخلية والخارجية، ويكشف عن طبيعة القوى ذات التأثير في قراراته وسياساته التي يعمل من أجل إقرارها، وتصبح سياسة للولايات المتحدة،......
ومن هنا فإن شبكة علاقاته التجارية مع أصحاب رؤوس الأموال وخصوصاً منهم اليهود في الولايات المتحدة وعلى رأسهم صهره وزوج إبنته جاريد كوشنير، وغيره من أصحاب رؤوس الأموال اليهودية، وما يحمله ذلك من بعد عائلي يمثل عاملاً مهماً ذا تأثير في سياساته تجاه الشرق الأوسط عامة وتجاه (الكيان الصهيوني)، والقضية الفلسطينية خاصة، أضف إلى ذلك قاعدته الإنتخابية الجماهيرية من المسيحية الإنجيلية الأكثر يمينية في المجتمع الأمريكي، والتي تعتقد أن دعم الكيان الصهيوني والحفاظ عليه هو عقيدة مسيحية، تحقيقاً لإرادة الرَّب وتحضيراً وتهيئة لاسطورة (معركة هيرمجدو) شمال فلسطين، والتي على أثرها يهبط المسيح ويحول اليهود إلى الديانة المسيحية رغماً عنهم ومن لم يتحول منهم سوف يقضي عليهم ذلك حسب إعتقاد هذه الطائفة البروتستانتية الإنجيلية المتطرفة.........!
لذا ما أشار إليه الصحافي مايكل وولف في كتابه بشأن ما يسمى( صفقة العصر) أنها تقوم على أساس إلحاق قطاع غزة بمصر العربية وبعض أجزاء الضفة الغربية إلى الأردن، كي تغرقا كل من مصر والأردن بأوحال هذا الصراع المزمن دون حلٍ سياسي واقعي يؤدي إلى الإستقرار والسلام في المنطقة، على ضوء ذلك يمكن فهم موقف ترامب بإعتبار القدس عاصمة للكيان الصهيوني، وإقراره نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس تنفيذاً لقرار الكونغرس الذي مضى عليه إثنان وعشرون عاماً، و الذي لم يقدم على تنفيذه أي من الرؤساء السابقين خلال تلك الفترة، ليأتي السيد ترامب ويكسر هذه القاعدة، ويقوم بالتنفيذ من خلال تأثير شبكة المصالح الأكثر تأثيراً عليه وهي البعد العائلي، الرأسمالية اليهودية، وثم قاعدته الجماهيرية التي صبت أصواتها إليه، والتي تمثل شبكة الأمان له كي تدعم إستمراريته في البيت الأبيض وتعيد إنتخابه لدورة رئاسية ثانية......!
هذه السياسة الامريكية الفجة والمتطرفة التي باتت تتسم بها سياسة الولايات المتحدة والتي يعبر عنها الرئيس ترامب ومساعدوه من نائب الرئيس مايك بنس، إلى مفوضه للصراع الفلسطيني الإسرائيلي المحامي جرينبلات، وصهره جاريد كوشنير اليهودي الصهيوني المتطرف الرأسمالي والذي يعتمد عليه كمستشار كبير في تنفيذ سياسته الخارجية وخصوصاً منها الشرق أوسطية يضاف اليهم السفير الامريكي اليهودي المستوطن في الاراضي الفلسطينية فريدمان و تكشف حقيقة توجهه المنحاز بل المتبني لمواقف الكيان الصهيوني من مسالة التسوية للصراع الفلسطيني الاسرائيلي وقد تكشفت مواقف الادارة الامريكية بسلسلة الاجراءات والمواقف السلبية من الشعب الفلسطيني بدءاً من اغلاق ممثلية م. ت.ف. في واشنطن الى وقف المساعدات للسلطة الفلسطينية والى المستشفيات الفلسطينية في القدس الى وقف مساهمة الولايات المتحدة في ميزانية وكالة غوث و تشغيل اللاجئين الفلسطينيين والضغط على الدول المانحة الأخرى الى وقف وقطع مساهماتها في ميزانيتها كي تصبح الوكالة عاجزة عن اداء مهمتها وقبل حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين ودون ممارسة حقهم في العودة الى مدنهم وقراهم التي هجروا منها سنة 1948م على يد العصابات الصهيونية...الخ.
على ضوء ذلك كله يمكن أن نفهم تلك القرارات والسياسات الفجة الامريكية في فترة ولاية السيد دونالد ترامب والمخالفة والمجافية لقواعد القانون الدولي ولقرارات الشرعية الدولية بشأن القدس واعتبارها من طرف الادارة الامريكية عاصمة للكيان الصهيوني والموقف من وكالة وغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ومن حق العودة وفق القرار 194 لسنة 1948 م والموقف من الاستيطان في الاراضي الفلسطينية وبشأن مختلف عناصر وقضايا تسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والتي حولت الولايات المتحدة من راعٍ للعملية التفاوضية إلى طرف خصم للفلسطينيين مباشرة و أكثر تطرفاً من حكومة اليمين الصهيوني الحاكم برئاسة نتن ياهو، بل وشجعته على سياساته تجاه القدس والمسجد الاقصى بشكل خاص وتجاه الإستيطان والتوسع فيه في الأراضي الفلسطينية واسقاط صفة المحتلة عنها والسعي إلى خلق وقائع على الارض تَحُول دون تنفيذ حل الدولتين بل تدمير امكانية حل الدولتين.....!
هكذا اذا كتاب (النار والغضب) لمؤلفه الصحافي الامريكي (مايكل وولف) يقدم للقارىء صورة ومقاربة لما هي عليه عقلية الرئيس ترامب وفريق عمله، ويكشف بعض التناقضات في سياسات الولايات المتحدة وخروجها عن المألوف في التعاطي مع مواضيع السياسات الداخلية والخارجية، وخصوصاً تلك المواقف التي عبرت عنها مواقف الرئيس ترامب من الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة في أوروبا ومناطق أخرى، ومواقفه من العديد من مواضيع السياسة الدولية على المستوى الامني والعسكري والإقتصادي ....
من هنا يجب أخذ هذه المؤشرات في الحسبان في التعاطي مع السياسة الأمريكية وخصوصاً فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي ...... ومختلف القضايا العربية، ويفرض هذا على العرب عامة والفلسطينيين خاصة إدراك حجم التحول والتغير في سياسات الرئاسة الأمريكية في عهد الرئيس دونالد ترامب.....
ووضع السياسات والإستراتيجيات الكفيلة بمواجهة تحولاتها وتغيراتها المفاجئة، كي ترتد هذه السياسة الرعناء والمتطرفة عن غيها وتلتزم قواعد القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية وكذلك مجمل القضايا والمشاكل التي تعج فيها المنطقة العربية....،
وكي تدرك هذه الإدارة الترامبية أن هذه المواقف والسياسات الأمريكية التي ستبنى على أساس هذه المعطيات سوف تلحق الأذى أولاً بمصالح الولايات المتحدة، ثم بالأمن والسلم في والعالم، وحتى يدرك الرئيس ترامب نفسه وفريق عمله، أن إحترام مصالح الولايات المتحدة، يقتضي منها إحترام مصالح الآخرين .....، وأن لغة الإبتزاز السياسي والإقتصادي والأمني لن تفلح في إرضاخ الآخرين وفي مقدمتهم الشعب الفلسطيني الذي سيواصل كفاحه الوطني بمختلف أشكال المقاومة والكفاح الشعبي والسياسي والدبلوماسي والقانوني والتي تقرها الشرعية الدولية....، حتى ينتزع حقوقه المشروعة في وطنه فلسطين ويمارس حقه في العودة وتقرير المصير، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.
إن النار والغضب المتأجج يوماً بعد يوم في فلسطين والمنطقة، تؤججه هذه السياسات الرعناء والفجة والمتطرفة من إدارة ترامب إلى سياسات وممارسات حكومة اليمين الصهيوني وعلى رأسها نتنياهو، وسيتصدى لها الشعب الفلسطيني ومعه كل الأشقاء والأصدقاء وكافة الدول التي تحرص على إحترام قواعد القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية وتحرص على ارساء قواعد الامن والسلم في المنطقة، وسوف يتواصل جراء ذلك عزل هذه السياسات المتطرفة لأمريكا وللكيان الصهيوني على المستوى الدولي رسميا وشعبيا.. وسوف تنكفء هذه السياسات العنصرية الفجة آجلا أم عاجلا ولابد للحق والعدل أن ينتصر وتعود الحقوق لأصحابها..
بقلم/ د. عبد الرحيم جاموس
رئيس المجلس الاداري للاتحاد العام للحقوقيين الفلسطينيين
عضو المجلس الوطني الفلسطيني
E-mail: pcommety @ hotmail.com
الرياض 19/8/2019 م