مأساة الفلسطينيين: انعدام المبادرة

بقلم: عماد شقور

يعاني العمل الوطني الفلسطيني، منذ رحيل الزعيم الخالد، ياسر عرفات، قبل خمسة عشر عاما، من حالة ركود لم تشهد الساحة الفلسطينة، منذ النكبة سنة 1948، مثيلا لها، (من ناحية طول مدتها على الأقل).
بعد أقل من خمس سنوات على تقطيع ارض فلسطين، وتكسير وحدة شعبها وتماسكه، واخضاع من بقي داخل "الخط الأخضر" للحكم العسكري الإسرائيلي، والحاق الضفة الغربية بالاردن، وإتباع قطاع غزة بالإدارة المصرية، وطرد نحو نصف الشعب الفلسطيني من فلسطين الى بلاد اللجوء والشتات، انطلقت في مناطق الـ48 اول "جبهة شعبية" وطنية فلسطينية، بمبادرة رئيسي بلديتي كفر ياسيف وشفاعمرو، يَنِّي يني وجبّور جبور، وآخرين، لتشكل عنوانا وقيادة لمواجهة الحكم العسكري والتمييز ومصادرة الأراضي سياسة التجهيل التي هدفت الى جعل الأقلية الفلسطينية في إسرائيل "سقّائين وحطّابين"، على حد تعبير "مهندس" دولة إسرائيل، واول رئيس لحكومتها.
ثم، وبعد ذلك بأربع سنوات، وقبل انقضاء عقد على إقامة إسرائيل، انطلقت "حركة الأرض"، بمبادرة من منصور كردوش وصالح برانسي وحبيب قهوجي وصبري جريس ومحمد ميعاري وغيرهم، لتكون اول حركة "قومية" عربية في الداخل الفلسطيني. ومع استمرار وتصاعد تنكيل السلطات الإسرائيلية بالحركتين: الوطنية والقومية، وبعد عام واحد على تفجّر "يوم الأرض" في 30 آذار/مارس 1976، بادر الحزب الشيوعي الإسرائيلي، باسمه الجديد، "القائمة الشيوعية الجديدة ـ راكاح"، الى تشكيل "الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة" التي انضم الى عضويتها غالبية من بقي حيّاً من قيادات وكوادر ومناصري الحركتين الفلسطينيتين، الوطنية والقومية.
على الجانب الآخر من "الخط الأخضر" على أرض فلسطين: في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ وكذلك في مخيمات اللجوء وبلاد الشتات خارج فلسطين، بادر مئات وألوف عديدة من الفلسطينيين الى تشكيل تنظيمات سياسية لمواجهة الاحتلال والتهجير، وكان من أبرزها وأهمها التشكيل الفدائي الذي بادر إليه "أمير الشهداء"، خليل الوزير، ابو جهاد، ومعه محمد الإفرنجي من قطاع غزة، وحمد العايدي، ابو رمزي، الذي تسلّل وأقام في الضفة الغربية.
يضاف لهذه المبادرات ما بادرت اليه مجموعات من فلسطينيين اكبر سنّاً، اتاحت لها ظروفها الالتحاق بالجامعة الأمريكية في بيروت، وجامعات القاهرة، أبرزهم "حكيم الثورة"، الدكتور جورج حبش، والدكتور وديع حداد، وصبحي ياسين واحمد جبريل واحمد زعرور وابو حلمي الصبّاريني ومئات غيرهم، ممن شكلوا تنظيمات قومية عربية، ووطنية فلسطينية، رافضين جميعهم ما كان عليه الحال الفلسطيني والعربي، ومبادرين بالفعل على ارض الواقع، لتغيير هذا الواقع، باعتماد المبادرة الى تحرك عربي، وتحرك وطني فلسطيني، وكل ذلك خلال اقل من عقدين من نكبة 1948.
هكذا تشكّلت "حركة القوميين العرب"، وتطورها لتصبح "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"؛ و"ج ت ف"،؛ وكل ما اصاب هذه التنظيمات من انشقاقات وتشرذمات وتطورات، وصولا الى ما نشاهده هذه الايام من اسماء تستند الى تاريخ نضالي حقيقي، وتعاني من واقع وحاضرٍ مزرٍ.
في اوج كل هذه التطورات على الساحة الفلسطينية، وعلى رأسها، برز نجم "ابو الوطنية الفلسطينية"، ياسر عرفات، الذي يستحق بجدارة لقب "مبادر يمشي على قدمين":
ـ بادر الى تشكيل اول تنظيم فدائي فلسطيني مستقل، هو حركة "فتح"، قبل انشاء منظمة التحرير الفلسطينية.
ـ جمع حوله عمالقة: صلاح خلف، خليل الزير، خالد الحسن، محمود عباس، فاروق قدومي، وغيرهم، فاصبح عملاقا أول بين عمالقة كبار. مؤمنا ومطبّقا لقاعدة: "كبّر صاحبك بتكبر معه".
ـ بادر وأشرف على تطبيق "قاعدة ضمان النجاح"، ذات الأسس الثلاثة: (1) هدف واضح ومقبول، (2) خطة وبرناج عمل، و(3) تمويل. وأطلق فكرة الكفاح المسلح، ومارسها مستندا الى قاعدة ضمان النجاح هذه.
ـ سعى لاستيعاب كل نشاط وكل نشيط وطني فلسطيني. من لم يتقدم من هؤلاء باتجاه "فتح"، قاد ابو عمار فتح للتقدم نحوه واستمالته والتعاون معه. حتى عندما انطلقت حركة الإسلام السياسي بفرعها الفلسطيني، "حركة حماس"، احتضنها ولم ينبذها، تماما كما فعل مع تنظيمات فلسطينية تشكل امتدادا، غير مستقل الإرادة، لهذا النظام العربي او ذاك.
ـ دخل بحركة فتح في اطار منظمة التحرير الفلسطينية، واستفاد من ظروف مواتية، ليجعل من فتح عمودا فقريا لها وللثورة الفلسطينية ككل، وهو المتربع بجدارة على رأسها، بقبول جميع مكونات المنظمة والتجمعات الفلسطينية، مستمعا لكل رأي، منصتا لكل انتقاد واعتراض، مركزا على كل ما هو مشترك، ومحاولا التقليل من شأن كل ما هو موضع خلاف، حتى وصل الى نقطة توجيه "حكيم الثورة"، الدكتور جورج حبش القول مخاطباً له: "يا ابو عمار، نحن نختلف معك.. لكننا لا نختلف عليك".
ـ كل ذلك مكتظ بمسلسل من المبادرات: كفاح مسلح؛ تحالف مع أحزاب ودول (عربية واجنبية) ومعسكرات؛ السعي لاعتراف عربي ودولي بمنظمة التحرير ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني؛ المبادرة لفرض فلسطين شريكا في كل ما له علاقة بالمنطقة، والمبادرة لجعل فلسطين المفاوض الوحيد حول حقوق الشعب الفلسطيني.
هل يعني كل هذا ان ابو عمار كان منزّها عن الخطأ؟ ابداً.
اخطأ كثيرا، ودفع الشعب الفلسطيني ثمنا باهظا جدا لبعض اخطائه، وما زالت تجربة الابقاء على اذرع عسكرية لفتح ولبقية التنظيمات الفلسطينية، خارج اطار قوات الأمن الفلسطينية الموحدة، ماثلة للعيان، (ويمكن للميليشيات أن تقوّض وجود دولة قائمة، ولكن لا يمكن للميليشيات بناء دولة)؛ ثم بعد ذلك سياسة التسامح، (حتى لا نقول أكثر)، مع التصدي بالسلاح لمواجهة جيش الاستعمار والاحتلال الإسرائيلي، في "الانتفاضة الثانية"، وهذا ما ندفع ثمنه حتى اليوم.
على أن الخطأ الأكبر الذي نعاني من ويلاته، هو انعدام التركيز على قوى الشعب الفلسطيني في مخيمات دول الجوار والتجمعات الفلسطينية في الخارج، فور دخول قيادات وكوادر الثورة الفلسطينية الى جزء من ارض فلسطين. هذه السياسة عَنَت تخلي الطائر الفلسطيني عن واحد من جناحيه، ودخول المفاضات، التي لا بد منها، مع إسرائيل، دون واحد من اهم عوامل النجاح لتحقيق الأهداف الوطنية الفلسطينية المشروعة.
بادر أبو عمار كثيرا. كان كتلة متحركة من المبادرات المتواصلة. أصاب وأنجز(بمن معه وحوله) كثيرا، بكثيرا جدا، واخطأ احيانا.
لكننا نعيش، منذ رحيله، مرحلة خالية من أي مبادرة، وهذه كارثة.
كل العمل الوطني الفلسطيني، على مدى الخمس عشرة سنة الماضية، هو ردود فعل. وهذا ما لا يجوز ان يكون عليه الحال.
لا يجدر بأي فلسطيني أن يعرف اليأس. ولا ثقة لدي، ولا قناعة، ولا احترام، لأي كلام سياسي يبدأ أو ينتهي بتعبير " الفرصة الأخيرة". لا تقدير عندي لـنظرية "نهاية التاريخ" وصاحبها الياباني الأمريكي، فوكو ياما، ولا لكل المعجبين به ومتابعيه ومريديه.
لم يبدأ التاريخ امس. ولن تنتهي الحياة غداً. لكن.. بدأ التاريخ بمبادرة، ويستمر بالمبادرات.

  عماد شقور

٭ كاتب فلسطيني