"الخالد بتقديري هو من خطا بجماعته خطوة حاسمة في الميدان الّذي تفوّق فيه. الخالد هو الّذي جعل وسطه، بفضل جهوده، خيراً ممّا كان قبل ولادته. الخالد هو الّذي ثقّف وأنمى جانباً من الشّخصيّة العامّة، فكان له في تكوينها أثر لا تمحوه الأعوام والدّهور." (ميّ زيادة)
بهذا المعنى العميق للخلود، كانت ميّ تعي أنّ الكتابة نقش في النّفوس، وولوج في تكوين الفكر الإنسانيّ. وليست الكتابة مجرّد رصفٍ للكلمات وتعبيراً عن المشاعر أو تعبيراً عن الذّات. إنّها عمليّة تثقيف وتنوير وتطوير للعقل. لذلك من اطّلع على أدب ميّ زيادة، وتحديداً خطاباتها المتعدّدة الّتي كانت تلقيها في أيّة مناسبة دُعيت إليها، يراها تستدعي التّاريخ والثّقافات المتعدّدة بما يتناسب ومناسبة الخطاب، ما يعني أنّ خطاباتها لا تندرج ضمن إطار المدح أو الكلام المنمّق، بل كانت تنتهز هذه الفرص لتحفر رقيّ الفكر في الوعي الجمعيّ، فتستفزّ العقل للتّساؤل والتّأمّل والنّقاش. فكلّ خطاب أو مقال لميّ فيه ما فيه من التّفاصيل الّتي تغني العقل وتحيله للبحث، كأنّي بها تريد في ذلك الخطاب أو المقال أن تزرع في المستمع والقارئ بذور المعرفة والعلم والثّقافة. وهناك فرق شاسع بين زرع المعرفة واستعراضها؛ فالزّرع يفترض جهداً شاقّاً ووعياً متكاملاً ورصانة فكريّة، تفتح نافذة الأسئلة لدى القارئ، وأمّا الاستعراض المعرفيّ ففوضويّ ولا يؤثّر في القارئ.
يستشف القارئ من خلال مقالات ميّ وخطاباتها أهمّيّة حضورها وجلال هذا الحضور في الوسط الأدبيّ، فهي الكاتبة المحاطة بهالة الفكر، وليست معنيّة بأيّ أمر غير هذا. فإذا تحدّثت عن الوطن خلا أسلوبها من الشّعارات الرّنّانة والكلام الّذي يمرّ بالنّفس ليشعلها، ثم ما تلبث أن تخمد الشّعلة لسطحيّة الكلام وتكراره. وإنّما ميّ زيادة تعرض تأمّلها ووعيها بشكل محاكاة أو نقاش مع القارئ فتوقظ في داخله تساؤلات عن فهمه الشّخصيّ للوطن. وإذا تحدّثت عن التّآخي بين الأديان، استدعت التّاريخ كما قرأته بوعي وحياديّة وإنصاف مشيرة إلى تفاصيل وأحداث تاريخيّة، ترفع من مستوى القارئ الفكريّ، ولا تنحدر به إلى حضيض الغرائز. وإذا تحدّثت عن الثّقافة الغربيّة أدخلت القارئ في حضارات تعرّفت عليها فعرّفته بها، لا لتبهره بهذه الحضارات، وإنّما لتقدّم مثالاً آخر للحضارة مع الحرص على عدم التّمثّل بها والتّخلّي عن الهويّة الخاصّة. وإذا تحدّثت في العلم كشفت عن كاتبة متميّزة ومتفرّدة في المعرفة، تجيد نقل الرّؤية العلميّة ليفهمها القارئ، ما يندر في وسط الكاتبات بشكل عام. وإذا تحدّثت عن المرأة آثرت تسليط الضّوء على قدراتها ومسؤوليّاتها وعلمها ومعرفتها بعيداً عن إقحام الرّجل في ما يشبه التّنافس أو الحرب، فموضوعها في هذه الكتابات ليس الرّجل وإنّما المرأة. وإن ذكرت الرّجل فلأنّه لا يمكن تجاهله كعنصر في المجتمع، وإنّما أرادت ميّ أن ترفع من قدرة المرأة الفكريّة وتسليط الضوء على شخصيّتها وتركيبتها الإنسانيّة. "تتهيّب المرأة أمام مقدرة الرّجل لاعتقادها أنّه أبرع منها في الإلمام بالأمور من جميع جهاتها. فما أشدّ خيبتها يوم ترى الرّجل الذّكيّ الحسّاس لا يدرك ولا يريد أن يدرك من الحسنات أو السّيّئات إلّا وجهاً واحداً فقط (ميّ زيادة)
ولئن كانت ميّ تشقّ طريق الخلود، سعت جاهدةً لبلوغ أكبر عدد من القرّاء، وذلك من خلال عدم انحيازها لأحزاب أو سياسات أو مواضيع معيّنة. فعلى سبيل المثال، رفضت ميّ معالجة شؤون المرأة فقط والالتزام بمجلّات نسائيّة وحسب، لأنّ هذا الالتزام يحدّ من تطلّعاتها وطموحها في التّأثير في التّكوين الفكريّ العام، و"تشير مقالاتها في "الأهرام" إلى عزمها على الخروج من الدّائرة المحدودة للمجلّات النّسائيّة والأدبيّة والثّقافيّة الّتي كانت تكتب لها سابقاً بالدّرجة الأولى، لتصل إلى جمهور أوسع من القرّاء." (مقدّمة كتابات منسيّة للمستشرقة أنتيا زيغلر، دار نوفل، بيروت، ط1، 2009).
يعدّ هذا الخروج من دائرة المواضيع المحدودة وبلوغ جمهور أوسع من القرّاء تحقيقاً لمفهوم الخلود كما أرادته ميّ. ومع أنّها كانت ترفض رفضاً قاطعاً أن تتدخّل في السّياسة إلّا أنّها وبذكاء حادّ لعبت دوراً سياسيّاً مهمّاً.
و"في معزل عن السّياسة" لعبت ميّ زيادة دوراً سياسيّاً لا يستهان به، سواء شهّرت بانتهاك حقوق مصر الشّرعيّة بنظام القضاء المختلط، أو طالبت بمبادرات إداريّة في شؤون تخطيط المدن، أم تذمّرت من التّقصير في المجال الصّحيّ، أم سعت في صدّ مشاريع قانونيّة لتشديد الرّقابة على الصّحافة، أو منع المسكرات، أم اتّخذت من الدّيكتاتوريّة في ظلّ سياسة اليد الحديديّة لمحمد محمود مناسبة لتأمّلاتها حول الحكومات والشّعوب، أم أثارت مناقشات كتلك الّتي دارت حول إدخال التّعليم الإجباريّ في مصر الّتي احتلّت الصّفحة الأولى في "الأهرام" لعدّة أسابيع.
بذلك كلّه وغيره، صارت ميّ زيادة مرجعاً للنّقد وحجّة أخلاقيّة اجتماعيّة ساهمت بأوجه مختلفة بتكوين الرّأي العام، إمّا من خلال مقالاتها وتعدّد ردود الفعل عليها، أو بالرّدّ العلنيّ أحياناً على رسائل قرّاء طلبوا نصيحتها ومساندتها، أو بشكل استطلاع للرأي مثل الاستفتاء حول إنشاء شرطة نسائيّة في مصر؛ فقد انهال على جريدة الأهرام على إثرها أكثر من ألف رسالة من رسائل القرّاء، نشرت منها ما يزيد عن الثّلاثمائة في الأسابيع التّالية." (مقدّمة كتابات منسيّة للمستشرقة أنتيا زيغلر). كما يذكر الباحث الفلسطينيّ د. جوزيف توفيق زيدان في مقدّمة كتابه "الأعمال المجهولة لمي زيادة" ص 25، أنّ رأي جلّ الّذين كتبوا عن أنّ ميّ لم تكن تُعنى بالسياسة لا يمكن التّمسّك به، لا سيّما بالنّظر إلى مقالاتها في "الأهرام"، وإن أسهمت الكاتبة نفسها في خلق هذا الانطباع من خلال أقوالها. كما كان لميّ مساهمات إذاعيّة تمثّل استثناء يذكر، فعبر هذه الوسيلة الإعلاميّة الّتي كانت حديثة العهد اتّجهت الكاتبة إلى جمهور جديد مواصلة شقّ طريقها إلى عامّة النّاس. (مقدّمة كتابات منسيّة للمستشرقة أنتيا زيغلر)
إذاً، فميّ أديبة متمدّدة في الوعي الإنسانيّ من خلال معرفتها الواسعة وحضورها الأدبيّ والثّقافيّ، وتواصلها المباشر مع القرّاء ومناقشتهم من خلال الرّسائل والمقترحات والاستفتاء. وما هذا التّمدّد إلّا تأكيد على أنّ كلمة ميّ تأصّلت في الوعي الإنسانيّ، وساهمت إلى حدّ بعيد من خلال تحرّرها الفكريّ في أن تبني فكراً موازياً لدى القارئ. فميّ لم تكن مجرّد كاتبة تدغدغ حسّ القارئ ببعض العبارات الجميلة أو الصّور الخياليّة الّتي تداعب مشاعره. بل كانت امرأة فكر تخلق نقاشاً حيّاً بينها وبين القارئ في جميع المواضيع، التّاريخيّة منها والعلميّة والوطنيّة والاجتماعيّة والفكريّة والسّياسيّة. ما يجعلنا نكوّن صورة واضحة عن أديبة جليلة تؤثّر في الأدب العربيّ الّذي عاصرته، كما تؤثّر في الأدب المعاصر بل في تكوين فكر الإنسان المعاصر، من ناحية الارتقاء بالفكر وتنوير العقل.
نحن أمام ميّ زيادة المرجع، وقد أقول المدرسة الّتي تعلّم بكلمتها كيف نربّي الفكر الإنسانيّ على جميع المستويات بدل أن نغرقه في التّفاهات، بل بدل أن ندخله في هيكليّة التّفاهة.
قد لا نفهم لماذا لم تدخل ميّ في تكويننا المعرفيّ، أقلّه ككاتبات، وقد نفهم إذا تتبّعنا تفاصيل عديدة من شأنها أن تثير التّساؤلات حول عدم انتباهنا إلى مرجعيّة أدبيّة وثقافيّة يمكن أن تغني فكرنا وخبرتنا في الكتابة. ومن ضمن هذه التّفاصيل عدم التّركيز على الفكر والانشغال الأكبر بالبوح عن المشاعر وعدم التّوغّل الجدّيّ في المعرفة. من ناحية أخرى، لعلّنا ما زلنا بعيدين عن النّطق بالحكمة، حكمة المرأة. ولعلّنا لا نقدّر ذواتنا حقّ التّقدير انطلاقاً من قدراتنا الشّخصيّة. وإنّما غالب الظّنّ أنّنا ما زلنا نبحث عن ذواتنا جاعلين الآخر محور البحث. وأعني بالآخر الرّجل الّذي ما برحنا ننافسه لنثبت حضورنا. بيد أنّه ينبغي إثبات الحضور بمعزل عن المنافسة معه والقياس عليه.
قد لا نفهم لماذا لم نقرأ عن ميّ إلّا صورة هشّة بعيدة كلّ البعد عن صورتها الحقيقيّة وحضورها الجليل في الوسط الأدبيّ. وقد نفهم، إذا أعملنا العقل في الخبر كما يقول ابن خلدون، وولجنا سياقاً أدبيّاً وتاريخيّاً وحلّلنا بعض الشّخصيّات الّتي عاصرت ميّ زيادة من خلال سلوكهم الحياتيّ وعقدهم الذّكوريّة وانفصام شخصيّتهم ونظرتهم للوجه الواحد للمرأة، وربّما خوفهم من الحضور المتحرّر مقابل تأصيل وتجذير الفكر الدّينيّ. كلّها أسباب ممكنة ومشروعة التّساؤل. إلّا أنّه ما من خفيّ إلّا سيظهر، وما من مكتوم إلّا سيُعلن عنه، ليصبح واضح النّور يعشي ذوي الأعين كليلة النّظر.
مادونا عسكر لبنان