اختار التونسيون معاقبة الطبقة السياسيّة بمختلف أحزابها وتلاوينها ومرجعياتها، بعد أن استنزفت وقتها وجهدها في الصراعات الحزبية والشخصية، وانشغلت عن مشاكل البلاد الاقتصادية والاجتماعية، ولم تلتفت خصوصاً لمشاكل الشباب والمناطق المُهمّشة والأحياء الشعبية المليئة بالفقر والفوضى!.
ومن المتفق عليه، أنّ تونس لم تتمكّن منذ الثورة من تحقيق نقلة اقتصاديّة تُوازي ما تحقّق سياسيّاً. فملفّ الأزمات الاقتصاديّة لا يزال يمثّل مشكلة أمام الحكومات المتعاقبة، ما دفع التونسيّين إلى الاحتجاج بشكل متواصل طيلة السنوات الأخيرة، مطالبين بمراجعة السياسيات الاقتصاديّة وتحسين القدرة الشرائيّة التي تدهورت. كما أنّ هذا الأمر نفسه دفع شباباً كثيرين إلى النفور واليأس من السياسة والسياسيين.
وقد وصفت نتائج انتخابات الرئاسة في تونس (15/9)، بأنها «زلزال» أو «تسونامي سياسي»، تمثّل بخسارة منظومة الحكم القائمة حالياً، والممثلة في حزب «النداء» وحزب «تحيا تونس» (الليبراليان الوسطيان)، وحركة «النهضة» (الإسلامية)، وكذلك منظومة المعارضة (اليسارية) التي قادها لسنوات تحالف «الجبهة الشعبية» بزعامة حمّة الهمامي. وهذا الأمر ينسحب كذلك على كل الأحزاب والشخصيات المتحدّرة من «نداء تونس» (الأم)، التي أنهكها الانقسام والتشتّت.
وبذلك، تضيف الانتخابات التونسية تأكيداً جديداً على صعود الشعبوية عالمياً وفي مختلف بقاع الأرض، في شمالها المتقدّم وجنوبها النامي على حدٍّ سواء، حيث تتجه أصوات الناخبين إلى مرشّحين من خارج المنظومة التقليدية المعروفة، بيمينها ويسارها، في وقت أصبحت فيه مؤثرات الإعلام والمال والسوشيال ميديا والعمل الخيري والزبائنية السياسية، فاعلة في توجيه الاقتراع والناخب!.
وقد حملت النتائج إلى الدورة الثانية من الاقتراع مرشّحين يكادان أن يكونا على طرفي نقيض في كلّ شيء تقريباً، هما؛ قيس سعيّد، أستاذ القانون الدستوري (المستقل)، وقطب الإعلام الموقوف حالياً، نبيل القروي، رئيس حزب «قلب تونس»، وذلك بعد تصدّرهما نتائج الدورة الأولى متقدمين على بقية المرشحين، (وأغلبهم من الوجوه التي مارست السياسة أو الحكم ومحسوبة على المنظومة القديمة). أولهما يُعدّ من خارج «السيستم» بشكل كليّ، والثاني كان من مؤيدي حزب نداء تونس، قبل أن يتخلّى عنه ويبدأ العمل على نحو مستقل.
قيس سعيد
ينتمي قيس سعيد، الذي يتحدث الفصحى دائماً كما لو كان يحاضر في الجامعة، للطبقة المتوسطة على عكس أغلب الطبقة السياسية. وقد جذب إليه الشباب وطلبة الجامعات ليس فقط بالوعود العامة التي أطلقها، ولكن أيضاً كونه ظهر في صورة «السياسي الزاهد المتعفف عن المال العام»، في وقت يزدحم فيه المشهد بأخبار الفساد والفاسدين والصفقات المشبوهة.
وقد لفت انتباه المراقبين التناقض الصارخ والفارق الكبير بين الثروة الهائلة للقروي وآلته الانتخابية الضخمة، بالمقارنة مع سعيد الذي لم ينفق أموالاً تذكر في حملته الانتخابية، التي غلب عليها التقشف والحد الأدنى من التكلفة، وخلت من مظاهر الزينة والأعلام والأموال الموزعة، في وقت أصبحت فيه هذه المظاهر دلالة على الفساد أو الدعم الخارجي.
وبينما أنفق القروي وغيره مئات الآلاف من الدولارات على حملاتهم، لم يكن لسعيد لا مدير حملة ولا تمويل، بل كان لديه فقط مقرّ متواضع في مبنى قديم وسط العاصمة، وكان يعتمد على تبرعات متواضعة من متطوعين يدعمونه. وخلافاً للقروي أيضاً، رأى فيه البعض «شخصية تجمع بين التطهرية الثورية والنهج الاجتماعي المحافظ، فضلاً عن الصفة الحقوقية القانونية» التي يحبذها كثير من التونسيين.
ويدعم سعيد تطبيق عقوبة الإعدام ويرفض المساواة في الميراث بين الرجال والنساء، ويركّز على اللامركزية في الحكم في بلد اعتاد على المركزية وهيمنة العاصمة على نحو تقليدي، وهو توجه يثير مخاوف كثيرة في الساحة السياسية، خاصة في ظل ما يروج من حديث عن وقوف «حزب إسلامي متشدد» وراءه.
وقد تمكّن بسلوكه وطروحاته هذه من السيطرة على جزء معتبر من الخزان الانتخابي للحركات الإسلامية بمختلف مشاربها، وقد حفلت الانتخابات بالعديد من ممثليها؛ فإلى جانب عبد الفتاح مورو، مرشح «النهضة»، كان هناك أيضاً حمادي الجبالي ولطفي المرايحي وسيف الدين مخلوف والرئيس الأسبق محمد المنصف المرزوقي. يُذكر هنا أنّ سعيد اتهم من قبل بعض الأوساط السياسية بأنه «عصفور النهضة النادر غير المعلن»، بسبب مواقفه الموافقة للحركة الإسلامية.
الطبقة الوسطى
واعتبر البعض أن صعود سعيّد جاء نتيجة لفشل الحكومات المتعاقبة منذ 2011، في معالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وفقدان الناس لثقتهم في الطبقة السياسية وفي المناخ السياسي العام. ومن هنا، أشار محللون إلى دور الطبقة الوسطى في صعوده، وتحديداً الجزء الذي يخشى على نفسه من مزيد من التراجع والتآكل، على خلفية تفاقم الوضع الاقتصادي وغلاء المعيشة، فهذا الجزء رأى في سعيّد ممثلاً له، وهو الذي ظهر خلال حملاته وهو يقود سيارته القديمة، وكان دائماً يردد أنه يفضل البقاء في منزله إذا تم انتخابه، بدلاً من الانتقال إلى القصر الرئاسي الفاخر في قرطاج.
نبيل القروي
رجل المال وقطب الإعلام الذي بات يوصف بأنه «برلسكوني تونس»، وخصوصاً بعد إطلاقه قناة «نسمة» الفضائية الخاصة، التي استخدمها لسنوات إلى جانب المؤسسة الخيرية التي أسّسها بعد وفاة ابنه الدرامية، في الدعاية وتقديم نفسه «بطلاً للفقراء ومُعوّضاً لغياب الحكومة وتقصيرها».
وقد فشل خصومه في الحدّ من تأثيره وحصوله على نتائج لافتة، على رغم وصفه بأنه «شعبوي يسعى للمتاجرة بآلام المهمشين والفقراء للوصول إلى كرسي الحكم». ولقبه البعض بـ«روبن هود»، حيث بنى شعبيته من خلال توزيع مساعدات وإعانات (مصدرها مشبوه)، وزيارات للمناطق الداخليّة المهمّشة من البلاد، التي سرعان ما تمتّع في أوساطها الفقيرة والمحرومة بقاعدة انتخابيّة كبيرة، رافعاً شعار «لا للظلم.. لا للتهميش.. لا للفقر.. نعم للأمل»!.
وفي توقيت مريب بين الزمنين القضائي والانتخابي، قرّر القضاء التونسي إيقافه قبل عشرة أيام من انطلاق الحملة الانتخابيّة، على خلفيّة تُهم تتعلّق بتبييض أموال وتهرّب ضريبي، إثر شكوى رفعتها ضده منظمة «أنا يقظ» التونسية عام 2017. وهو ما نفاه القروي مدّعياً أنه «يتعرض لحملة ممنهجة وسياسية بهدف إقصائه من السباق الرئاسي». ومن المنتظر أن يطفو على السطح جدل قانوني بخصوص تواصل توقيفه ومنعه من القيام بحملته الانتخابية.
انعكاس «الرئاسية» على «التشريعية»
ويسود تخوّف على نطاق واسع من أن تقود نتائج الانتخابات الرئاسية، إلى زلزال كبير آخر في الانتخابات التشريعية المقرّرة في السادس من نشرين الأول/ أكتوبر القادم. فقيس سعيد لا يمتلك حزبا ولا يعرف إلى أيّ الجهات الحزبية ستذهب الأصوات التي حصل عليها، وهل يمكن أن يتحالف مع حركة النهضة التي بدأت تغازله، وسط تسريبات عن أنها لعبت دوراً ما في صعوده.
أما القروي فقد يكون أكبر مستفيد في الانتخابات التشريعية في ضوء وجود حزبه في هذه الانتخابات أولاً، مع جمهور انتخابي ثابت يتمركز بصفة خاصة في الشمال الغربي وبنزرت وبعض الأحياء الشعبية الكبرى في محيط العاصمة تونس. على رغم أنه لا يعرف إن كان سيتم إطلاق سراحه، وهل سيشارك في الحملة الانتخابية للدور الثاني أم لا؟، وكيف ستتعامل المؤسسة القضائية مع وضعه في حال فوزه بمنصب الرئيس؟!.
بقلم/ فؤاد محجوب