أي خطاب فلسطيني (رسمي او غير رسمي) في محفل دولي او سواه يتعلق بحالتنا الفلسطينية الراهنة ولا يستند على رؤية نقدية لواقع الحال وتجديدية في أولوياتها ومسارها السياسي في بلورة رؤية وطنية استراتيجية لا تنطلق من المحدد السياسي - بغض النظر عما يحمله هذا الخطاب من مصطلحات و تعابير"استنهاضية توصيفية "وعاطفية شعبوية – هو مراهقة سياسية همها الأساس مصالحها وامتيازاتها الفئوية الاجتماعية وهو بمثابة بوليصة تأمين على حياتها واستمرارها ومصالحها.
أي خطاب يفتقر الى الإرادة السياسية وتوصيفاتها البرنامجية في لملمة ما تبقى من نزيف الجسد الفلسطيني وتشرذمه المتواصل جراء عبثية " اللعبة والمناورات السياسية" ونتائجها الكارثية على المشروع الوطني الفلسطيني ووحدة قضيته وحقوقه الثابتة هو مجرد هراء استعراضي نتيجة الإفلاس السياسي والانبطاح الاستسلامي.
ان تفاقم وانحسار الحالة الفلسطينية وتدني مستوى أدائها السياسي و الدبلوماسي والاجتماعي المدني يتطلب بالضرورة الارتقاء عن المهاترات السياسية والخطابات الاستهلاكية, وأي بيان او خطاب فلسطيني ( رسمي او تعبوي جماهيري ) يجب ان ينطلق من المحددات السياسية أولا :- الغاء اتفاق أوسلو وكل التزاماته واستحقاقاته السياسية والأمنية والاقتصادية,- سحب الاعتراف الرسمي ب"دولة إسرائيل" لحين اعترافها بالدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران 67,- الدعوة فورا الى حوار وطني فلسطيني شامل يضم كل القوى السياسية والفاعلة الجماهيرية بدون استثناء ,- بلورة رؤية وطنية استراتيجية توافقية توحد الشعب الفلسطيني سياسيا و تمثيليا وحقوقيا, وتكفل استنهاض قواه من خلال اليات عمل ميدانية وعلى الأرض وليس من تحت الطاولة.
هذه الخطابات السياسية الاستعراضية والشعبوية والتي تستخف بوعي الجماهير الفلسطينية ورنانة إعلاميا لا محل لها من الاعراب الا في قاموس سوق "النخاسة" السياسية, والتي أوصلت الجماهير الفلسطينية الى حالة من الياس والإحباط والاغتراب السياسي عن ذاتها وقضيتها والتنكر لقيادتها السياسية الرسمية.
فاذا كانت الانتخابات البرلمانية الفلسطينية أولوية برأي رئيس السلطة الفلسطينية (عباس) - وهو على حق في طرحه – حيث انها استحقاق وطني ومن أولويات التجديد في الحياة السياسية الفلسطينية وبوابة لطي صفحة الانقسام الداخلي ومدخل أساس لاستعادة الوحدة الوطنية ووحدة النظام السياسي الفلسطيني - لكنها تتطلب اطلاق اجندة الحوار الوطني الشامل فورا للتوافق وطنيا على أسسها و ترتيبها و معاييرها, واذا اعتبرنا ان الانتخابات البرلمانية والرئاسية الفلسطينية أولوية وطنية وبجدارة, هذا يستدعي وعلى الفور التحرر من قيود النقيض السياسي والأخلاقي لهذا الاستحقاق الوطني والديمقراطي وهو اتفاق أوسلو واستحقاقاته فلسطينيا, والعودة الى الاجماع الوطني التوافقي والتزاماته البديلة والبدء في تطبيقه ميدانيا, واستنهاض الروافع والاليات البرنامجية (اجتماعيا واقتصاديا) للشعب الفلسطيني نحو عصيان وطني شامل كخيار بديل عن خيار المفاوضات العقيمة في ظل موازين قوى مختلة لصالح المشروع الأمريكي – الإسرائيلي المعادي, والتحرك الدبلوماسي عالميا لتدويل القضية الفلسطينية لكي يتحمل المجتمع الدولي مسؤولياته القانونية والأممية والانسانية تجاه الشعب الفلسطيني.
بينما الحديث المتكرر "إعلاميا" عن الغاء الاتفاق وملحقاته اذا أقدمت "إسرائيل" على ضم الغور وشمال البحر الميت؟!!!,هو بحد ذاته تجاهل متعمد لما يجري من حقائق على الأرض ,حيث عملية الضم والاستيطان والتهويد تسير على خطى ثابتة وعلى الطريقة" "البنيامينية" الإسرائيلية ,"ويلي ما بشوف من الغربال بكون اعمى", هي محاولة يائسة لكسب المزيد من الوقت والرهان على بقايا أوسلو وخيار المفاوضات وعلى الغير بانتظار ما ستقدمه الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة والانتخابات الامريكية المقبلة من "اضغاث أحلام ".
ان موقف السلطة الرسمية الفلسطينية والذي عبر عنه خطاب الرئيس عباس في الجمعية العمومية للأمم المتحدة بات واضحا، لا لخطوة تصعيدية في وجه الاحتلال وسياساته, وانما الاستسلام للأمر الواقع والامتثال لسياسة" حرب المواقع الثابتة", وامام هذا المشهد من الحالة الفلسطينية الراهنة تبرز الحاجة الملحة لتبني استراتيجية فلسطينية شاملة، تعمل على استنهاض كل عناصر القوة داخل المجتمع الفلسطيني, وإعادة الاعتبار لقضيته الوطنية, و ترتكز على فكرة مواصلة النضال والمقاومة بكافة اشكالها، بحيث إذا أخفق مسار كفاحي معين، يتوجب تبني مسار بديل، وأن يتأسس برنامج النضال الوطني على فكرة تعزيز صمود الشعب الفلسطيني فوق أرضه، وممارسة كافة أشكال المقاومة والنضال ضد كل تجليات سياسات الاحتلال الاستيطانية والضم الزاحف, وأن تتواكب المقاومة الوطنية الفلسطينية في مساراتها الموازية والمتصلة على امتداد جغرافية التواجد الفلسطيني في الداخل والشتات فإذا كان الهدف المعلن لفلسطينيي الأرض المحتلة هو إقامة دولة مستقلة، وكانت مطالب فلسطينيي 48هي المساواة والعدالة وضد سياسة التمييز العنصري، ومطالب فلسطينيي الشتات هي العودة؛ فإن الاستراتيجية الفلسطينية الشاملة، يجب أن تتضمن هذه الأهداف العادلة، وتصوغ برامجها الكفاحية على أساسها، بحيث تحافظ على وحدة الشعب وقضيته من خلال وحدة حقوقه لأن تهميش أي فئة من فئات الشعب الفلسطيني داخل الوطن أو خارجه ستؤدي إلى تقويض الهوية الوطنية الجامعة
أوسلو تم نعيه منذ زمن طويل, بمرحلتيه الانتقالية و النهائية, ولمن سارع إلى الاحتفال بموت "صفقة ترامب" وهزيمة نتنياهو، وهنا المراهقة السياسية بعينها, حيث أن "الصفقة الترامبية" تطبق على الأرض، وتخلق واقعًا ستكرسه أي حكومة إسرائيلية قادمة، سواء أكانت حكومة وحدة وطنية برئاسة نتنياهو أم غيره, حتى وإن تأخر إعلانها في حالة توجه "إسرائيل" إلى انتخابات ثالثة, وتغير الأشخاص لا يعني بالمطلق الاختلاف على جوهر المشروع الصهيوني المناقض تماما للمشروع الوطني الفلسطيني ,لذلك, فان الرهان على الغير والبعض من فتات مكرماته هو محض افلاس سياسي وانحطاط فكري.
لا بد لنا ,نحن الفلسطينيون, من الانتقال وبإرادة سياسية ووطنية عالية, الى مرحلة جديدة ونوعية, مرحلة ما بعد أوسلو, بعد طيه واستحقاقاته, وان نحتكم الى قوة الجمهور الفلسطيني وارادته السياسية, أولا وأخيرا, وألا نقلد ما تمارسه الانتظارية السلطوية الفلسطينية من سياسات ومواقف, شاء من شاء وابى من ابى .
نحن احوج للقيام بمراجعة نقدية وطنية شاملة لكل سياساتنا وبرامجنا وتحالفاتنا الداخلية والخارجية والضغط على "طرفي نكبة فلسطين الثانية", من الانقساميين والانتهازيين و"المصلحجيين"، للعودة الى رشدهم الوطني وتغليب مصلحة القضية الوطنية وحقوقها على اجنداتهم الليبرالية والسلطوية الفئوية.
ان المراجعة النقدية الشاملة للحالة الفلسطينية وتجديدها استحقاق وطني بامتياز، وبغض النظر, أكان هذا التغييرُ والتجديد نتاجًا لمراجعةٍ فكريّة أمْ نتاجًا لهزيمةٍ سياسية أو انهيار معنويّ, وما هو حقيقته واسبابه, الأهم في ذلك: نتائجه, خصوصا اذا طال هذا التغيير والتجديد في الحالة الفلسطينية الموقف من المستعمر وسياساته, وابجديات الحراك الوطني الفلسطيني واولوياته في مواجهة الاحتلال ومستعمريه.
ان الحدّ الفاصل بين المراجعة النقدية لمسيرة العمل والتجربة النضالية من جهة، والاستسلام المطلق للانتكاسات السياسية والانبطاح امامها من جهة أخرى، هو: القراءة الجيدة لمتطلبات المرحلة والتخلي عن امتيازات الذات للصالح العام ,لأنه لا حلّ وسطيًّا ,على المستوى النظريّ والايديولوجي والسياسي بين المبدئية زمنَ الانتكاسات، وبين الانبطاحية زمنَ الهزيمة, الثبات والاستسلام لا يلتقيان.
بقلم/ د. باسم عثمان