لا أحد يريد التصعيد في غزة، لا فصائل المقاومة ولا إسرائيل. كل الأطراف جربت التصعيد ووصلت إلى طريق مسدود. تقر إسرائيل أن خياراتها في غزة محدودة عسكريًا وأقصاها شن حرب شاملة لا تستطيع تحمل تكاليفها داخليًا، لإسقاط حكم "حماس". أما فصائل المقاومة، وتحديدًا "حماس"، فقد حققت أقصى ما يمكن أن تحققه في الظروف الراهنة محليًا وإقليميًا ودوليًا، أي تفاهمات القاهرة الأخيرة التي تتلخص بتخفيف الحصار أو إزالته تدريجيًا مقابل تهدئة طويلة الأمد، أي أن الطرفين استنفذا خياراتهما إلى أقصاها.
هذا الواقع انعكس أمس الأربعاء بحديث قادة في "الجهاد الإسلامي"، زياد نخالة ومحمد الهندي وغيرهما، من خلال الشروط الثلاثة التي أعلنوا عنها لوقف إطلاق النار: وقف الاغتيالات في غزة والضفة، عدم استهداف المدنيين خصوصًا في مسيرات العودة، والتزام إسرائيل بتفاهمات القاهرة تمهيدا لإزالة الحصار.
هذه الشروط براغماتية وواقعية، وتستجيب لتطلعات أهالي غزة الذين وصل بهم الوضع إلى الحضيض على كافة المستويات، وهي براغماتية من يحمل السلاح من جهة، ويدير حياة أكثر من مليوني إنسان في منطقة مكتظة ومحاصرة من جهة ثانية. براغماتية ناتجة عن إدراك حدود استخدام القوة، وحدود قدرة البشر على تحمل الحرب والحصار.
وإسرائيل أيضًا أدركت حدود استخدام قوتها، وتريد فقط التخلص من "وجع رأس" اسمه قطاع غزة. استخدمت القوة التدميرية أكثر من مرة، وبالنهاية لم تستطع توفير الحماية لجبهتها الداخلية من القذائف الصاروخية، ولم تستطع إسقاط حكم "حماس". لذا، بات همها تثبيت الوضع القائم عسكريًا مع القطاع، ومنع انهياره إنسانيًا، حتى لا ينفجر في وجهها أو وجه نظام السيسي، ولأنها تريد "التفرغ" لجبهة الشمال كما يقول متحدثوها وكتابها في الصحف الإسرائيلية. هي تسعى إلى تفاهمات توفر التهدئة في غزة، لكنها تتيح لها "حرية العمل" العسكري في القطاع إن استدعت الحاجة، وتغييب ملف غزة دوليًا، وتحويله لقضية مساعدات إنسانية لا قضية سياسية.
لكن الأهم بالنسبة لإسرائيل، هو ما تسميه قوة الردع حتى لو كان متبادلا. تجربة الردع المتبادل في لبنان ناجحة بنظرها، ولم تحرمها من "حرية العمل" في سورية ولبنان إن اقتضت الضرورة. هذا ما تحاول فعله في غزة أيضًا. وقد ظهر ذلك جليًا في التصعيد المحدود في القطاع في الأيام الأخيرة، إذ أعلن بنيامين نتنياهو ووزراء حكومته وقادة الأجهزة الأمنية، أن إسرائيل استعدت فترة طويلة نسبيًا لعملية اغتيال بهاء أبو العطا، وأنها لا تريد التصعيد، وهذا يؤكد أن الردع متبادل.
وهذا ما يفسر سياق قرار اغتيال أبو العطا، الذي صورته إسرائيل على أنه "متمرد" و"مشاغب". مشكلة إسرائيل مع أبو العطا ليست "تمرده"، ولا إطلاقه القذائف نحو البلدات الإسرائيلية المحيطة بالقطاع. فالجيش، بحسب صحيفة "هآرتس" عارض اغتياله في السابق بسبب ذلك، وقال إن بمقدوره احتواء ذلك.
مشكلة إسرائيل ليست في أبو العطا حقيقةً، بل في سلوك "الجهاد الإسلامي" عمومًا، وهذا ما يتأكد إذا لم نتجاهل أنها حاولت اغتيال مسؤول الدائرة العسكرية في "الجهاد"، أكرم العجوري، باستهداف منزله في دمشق بالتزامن مع اغتيال أبو العطا. والتركيز الإسرائيلي على "تمرد" أبو العطا هو لحصر المشكلة في شخص وعدم إظهار العملية كأنها تستهدف "الجهاد" كحركة، وذلك تجنبًا لتدخل "حماس" في المعركة، ولتبرير الاغتيال بوصفه "قنبلة موقوتة"، وأنها تلتزم بتفاهمات القاهرة وأن الاغتيال كان حدثًا هامشيًا يؤكد مركزية التفاهمات.
المشكلة في "الجهاد"، بنظر إسرائيل، بأنها تجرأت على الرد في أعقاب خرق الاحتلال لتفاهمات القاهرة في الفترة الأخيرة، وعلى رأسها استهداف الاحتلال لمشاركي مسيرات العودة بالرصاص الحي. فهذا ما أكده أمس زياد نخالة، عندما قال إن أبو العطا كان يتصرف استنادًا إلى تعليمات القيادة في الخارج، التي قررت الرد على استهداف المتظاهرين باستهداف البلدات الإسرائيلية. وتجرؤ "الجهاد" هذا يعني بالنسبة لإسرائيل أنه تقويض لقوة ردعها.
لذلك، أعلنت إسرائيل أنها حققت أهداف عمليتها دون أن تحدد طبيعتها بدقة، واكتفت بأنها اغتالت أبو العطا ووجهت ضربة للبنية التحتية لـ"الجهاد". قد يبدو ذلك منطقيًا، لكن التخلص من أبو العطا لا يعني ألا يظهر بديل أكثر "تمردًا" منه. هذا لا يعني أن إسرائيل لم تحقق ثلاثة أهداف؛ أولا، التخلص من أبو عطا؛ ثانيًا، تقويض "الجهاد" ولو مرحليًا؛ ثالثًا، استعادة قوة ردعها في غزة من أجل تثبيت التهدئة أو تفاهمات القاهرة، التي في الحقيقة لم تكلفها شيئًا حقيقيًا. هذه ليست إستراتيجية بل إدارة للأزمة وضبطها.
قوة الردع، كانت مركز حديث نتنياهو في مؤتمر في الكنيست للاحتفاء بالذكرى الخامسة والعشرين لاتفاقية السلام مع الأردن، الأسبوع الجاري. قال نتنياهو إن قوة الردع هي الأساس بالنسبة لإسرائيل في حالات السلم والحرب، وإن العرب سلموا بوجود إسرائيل وتصالحوا معها لأنهم وصلوا إلى استنتاج بأنهم غير قادرين على تدميرها، وإنه "بلا ردع، عاجلا أم آجلا، فإن السلام مع المتسلطين سينهار. المفتاح الأول للتسوية مع الدول العربية، يتعلق بإدراك أننا نملك قوة ردع وأنهم لا يملكون قوة تدميرنا"، وادعى أن "الأنظمة الديمقراطية لم تنجح بالتمييز بين نوعين من السلام. النوع الأول هو سلام بين ديمقراطيات، فإن وجدت نفسك في صراع مع ديمقراطية فمن الأرجح ألا تدخل الحرب"، وأضاف أن النوع الثاني هو أن "الوضع معاكس كليًا مع الديكتاتوريات. السلام مع الديكتاتوريات هو بواسطة الردع". والسلام الذي يقصده نتنياهو ليس بالضرورة من خلال معاهدات، بل أيضًا التصالح مع وجود إسرائيل وعدم مهاجمتها.
الحل في غزة ليس عسكريًا
يسارع المتحدثون الفلسطينيون إلى مهاجمة إسرائيل في حالات العدوان على غزة، بأن الحل في غزة ليس عسكريًا أو أمنيًا، وإنما سياسيًا ويتمثل بإنهاء الحصار، وهذا صحيح جدًا، ويصح أيضًا أخذه بحسبان فصائل المقاومة في غزة بأن الحصار لن ينتهي بقوة السلاح فقط، بل بالنهاية هو بحاجة لقرار سياسي، وهذا ما أدركته "حماس" في السنوات الأخيرة، بأن القتال في الظروف الراهنة لا يكفي لإنهاء الحصار، خصوصًا أنها تقاتل في محيط عربي مفتت ومتآمر وبلا سند، وأدركت أن أقصى ما يمكن تحقيقه هو تفاهمات تحمي الناس في غزة من العدوانية الإسرائيلية، وتوفر لهم الشروط الأساسية لحياة طبيعية.
الانتقادات أو للدقة المزايدات على "حماس" في اليومين الأخيرين، بأنها نأت بسلاحها عن المواجهة غير مفهوم. هل المطلوب هو القتال من أجل القتال؟ لقد أصاب نخالة عندما قال أمس إن سلاح المقاومة خاضع للقرار السياسي وليس العكس. فدخول "حماس" المواجهة الأخيرة كان من شأنه توسيع العدوان وإطالته وما يترتب على ذلك من خسائر مادية وبشرية، في مساحة مكتظة سكانيًا تجاوزت مرحلة "على شفا الانهيار" الإنساني والبيئي.
هل تجنب "حماس" المواجهة قوض من قوة الردع المتبادل بالنسبة للمقاومة؟ ليس بالضرورة، ولكن لا يمكن الحكم عليه مسبقًا، بل هذا ما ستظهره المرحلة المقبلة. هل ستتجرأ إسرائيل على المقاومة في غزة مجددًا وتخرف تفاهمات القاهرة، أم ستتجنب ذلك لعدة أسباب، منها الردع المتبادل ورغبتها في التفرغ للمواجهة الأكبر، وهي مواجهة التحديات الإيرانية شرقًا وشمالا؟
ختامًا، سعت إسرائيل من خلال عدوانها الأخير استرداد ما تراه تراجعًا في قوة ردعها في غزة من خلال استهداف "الجهاد الإسلامي"، التي ترى أنها حليفة لإيران، ودق الأسافين بين فصائل المقاومة، تحديدًا بين "حماس" والجهاد". هل نجحت في ذلك؟ استبعد، ولكن المرحلة المقبلة ستعزز أو تنفي ذلك.
أما تحول المقاومة لمشروع حكم ذاتي أو تثبيت تفاهمات، فهذا يحيلنا إلى انعدام مشروع وطني تحرري فلسطيني، وهو لب المشكلة.
رامي منصور/ نقلا عن موقع عرب 48
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت