إيران وفلسطين بين م.ت.ف والجهاد الإسلامي

بقلم: سري سمور

سري سمور

ما زلنا في سلسلة الحديث المتواصل عن ثنائية القطبية في الساحة الفلسطينية من حيث الأسباب والحيثيات والتوقعات؛ وفي تشرين ثاني/أكتوبر الماضي نشرت مقالا تحت عنوان(حركة الجهاد الإسلامي بين المنصة والثورة الإيرانية) وأثناء إعداد وتحضير هذا المقال المكمل له، اغتال الأمريكيون الفريق(قاسم سليماني) قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، ولذا أحببت بداية التأكيد على مسألتين غاية في الأهمية، وهو تأكيد أعلم أن ثمة من يخالفني فيه الرأي بشدة، ولكن أدعو المخالفين إلى تحييد العواطف والتحليلات الانفعالية...ما أود التأكيد عليه هو:-

1) إيران وأمريكا في حالة عداء؛ وإيران دولة منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية بقيادة الخميني، دولة تعتبر(متمردة) على القانون والنظام الدولي الذي ساهم الأمريكان في تأسيسه وبلورته، وإيران سارت وتسير في حقول الألغام السياسية والاقتصادية، فواجهت العواصف أحيانا، وانحنت لها أحيانا أخرى لتثبت نفسها في خريطة نظام دولي وإقليمي لا يتقبل وجودها، وكان بينها وبين الأمريكان تحالفات تكتيكية، لم تمس في وعيها ولا وعيهم بحقيقة استراتيجية وهي العداء والتربص والكيد والصراع مباشرة أو عبر وكلاء وحلفاء، والتقاء مصالح الطرفين في مراحل معينة لا يعني أنهما في حالة توافق، أو كما يذهب بعضهم إلى القول بأن الصراع وهمي وإعلامي لذر الرماد في العيون، بدليل تلك التوافقات المحدودة زمانا ومكانا...وإسرائيل حاضرة بقوة في فلسفة العداء الأمريكي-الإيراني، وهي تعتبر إيران خطرا وجوديا، وصِدام إيران وإسرائيل التي ترتبط عضويا بالأمريكان لا يخفى على أي ناظر، حتى ولو كان عبر حلفاء أو ما شابه، وما انسحاب ترمب الفج من اتفاق دولي(الملف النووي) إلا مؤشر على تجليات الحضور الإسرائيلي في الفكر السياسي الأمريكي في التعاطي مع إيران، فلا يمكن حتى إشعار آخر أن تضع أمريكا إيران وإسرائيل في سلة واحدة من المصالح والحسابات، فإما هذه أو تلك!

2) المقاومة الفلسطينية تلقت دعما كبيرا وشهدت تطورا نوعيا وكميّا بفضل الدعم الإيراني المالي والتقني واللوجستي وغيره، وهذا ما يؤكده المتحدثون باسم المقاومة، والقريبون منهم، وتثبته وقائع المواجهات...وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن إدارة إيران لملفات أخرى في المنطقة كانت عادلة ونزيهة و(ثورية) ومبدئية، وأعلم أن الفصل بين المسألتين صعب جدا في عقول يغلب عليها رؤية الأمور وفق ثنائية (أبيض-أسود) ولا تريد أو لا تستطيع مشاهدة ألوان أخرى في عالم تتداخل فيه المصالح والأطماع مع الأيديولوجيات والأمزجة وطبائع النفوس، وربما لا لوم عليهم لأن الحليم أصبح حيرانا في خضم هذا التداخل والتعقيد، الذي يعجز أي مجهر عن تبين حقيقته.

وبالعودة إلى موضوعنا وهو ليس بعيدا عن إيران وعلاقتها بقضية فلسطين، أي حركة الجهاد الإسلامي، وتبني د.فتحي الشقاقي النموذج الثوري الإيراني علنا، ولكن قبل ذلك يجب أن نسلط الضوء على العلاقات الفلسطينية-الإيرانية قبل وبعد تلك المرحلة.

 

تقارب ثم افتراق!

 

كان ياسر عرفات هو أول زعيم يزور إيران مهنئا الخميني بنجاح الثورة, وقد امتدح الثورة واعتبر أن عصرا جديدا قد بدأ لا يبشر بخير للكيان العبري، وقد تحسنت العلاقات تلقائيا بين إيران و م.ت.ف, في مرحلة البدايات الأولى لعزل الشاه، ومن المعروف أن شاه إيران, كان على علاقة وطيدة مع الكيان العبري, وكذلك مع الأمريكان... أي مع أعداء الشعب الفلسطيني، والآن تغيرت الأمور جوهريا وصار النظام الجديد عدوا لأمريكا وإسرائيل، وهذا يصب في مصلحة القضية الفلسطينية، وقد التقط أبو عمار الإشارة مبكرا.

والنظام العتيد الذي جاء به الخميني حمل فكرا مختلفا دعّمه بممارسات فعلية تثبت بما لا يدع مجالا للشك أن إيران ما عادت صديقة أو حليفة لإسرائيل, أو حتى تقف على الحياد في ملف قضية فلسطين... ومن تلك الممارسات والتطبيقات؛ اقتحام السفارة الإسرائيلية في طهران وتقديمها إلى م.ت.ف لتصبح سفارة فلسطين,وإعلان يوم القدس العالمي... وتلت ذلك خطوات أخرى.

وقد حظي قادة م.ت.ف بحفاوة الاستقبال وحسن الضيافة في إيران الثورة (الجديدة) وكان هناك ثمة اقتراحات وأفكار عدة لدعم الفلسطينين, من بينهما مثلا احتمال تخصيص عوائد أحد آبار النفط الإيرانية لدعم م.ت.ف كما أن متطوعين إيرانيين تدربوا في قواعد حركة فتح.

لكن العلاقات سرعان ما تدهورت بين الطرفين لأسباب مختلفة؛ وإن لم تصل إلى حد القطيعة التامة حتى الآن، ومن تلك الأسباب عدم وجود مشتركات كثيرة بين الطرفين فيما يخص الفكر والسلوك من شتى الجوانب, كما أن الأهداف والرؤى السياسية لم تجد أرضية مناسبة لتطور العلاقات عوضاً عن تمتينها, فالثورة الإيرانية جاءت بعد بضع سنين من طرح م.ت.ف برنامجها المرحلي وخطاب عرفات الشهير في الأمم المتحدة، ووجود توجه بقبول مبدأ التفاوض مع إسرائيل.

وأيضاً ما كان عرفات ليقامر أو يغامر بعلاقات م.ت.ف مع الدول العربية؛ هذه الدول التي توترت علاقات معظمها (العراق والخليج خاصة ) مع إيران الجديدة, ناهيك عن التقارب السريع الدافئ بين سورية حافظ الأسد و إيران الخميني, حيث أن ذلك التقارب بدأت بوادره قبل خلع الشاه, عندما طلب عراق صدام من الخميني مغادرة النجف وسائر الأراضي العراقية, فعرض الأسد على الخميني أن يأتي إلى دمشق فاعتذر الأخير, ولكنه حفظ هذه اللفتة التي سيبنى عليها لاحقاً علاقة خاصة متواصلة, جعلت سورية في حالة مختلفة عن سائر الدول العربية لاسيما إبان الحرب العراقية الإيرانية وحتى الآن... والأسد بطبيعة الحال لم تكن علاقته بعرفات جيدة, خاصة أنه فيما بعد تبنى بل لربما  نظّم وحرّض على حركة الانشقاق في حركة فتح.

ومن ناحية أخرى ثمة أمر يتعلق بغموض(لم يدم طويلاً) بمآلات مرحلة ما بعد خلع الشاه داخل إيران, فقيادة م.ت.ف لم تكن على يقين بأن (تيار الحوزة) بزعامة الخميني وسائر مؤيديه سيحسمون ملف الحكم لصالحهم, في ظل وجود قوى وتيارات أخرى (علمانية وماركسية) خاضت معهم(رجال الحوزة) صراعاً دامياً, وربما كان هناك ظن بأن التيار الحوزوي لن يصمد نظراً لطبيعة النظام الدولي وتعقيدات جيوسياسية قائمة.

كل هذه المعطيات جعلت العلاقات بين إيران الخميني(الجمهورية الإسلامية) وبين م.ت.ف فاترة بل باردة ومتوترة، وبالتالي لن تستقبل م.ت.ف الحركة الجديدة التي أسسها د. فتحي الشقاقي بترحاب خاصة والدكتور يعلن بصراحة تأييداً مطلقاً لإيران عبر عنه قولاً وفعلاً  دون مواربة أو تورية مهما صغر حجمها، بل زاد الشقاقي وحركته على ذلك -خاصة في السنوات الأولى- أنهم في حالة عداوة مع مجمل النظام الرسمي العربي, في حين أن م.ت.ف حافظت على علاقات طيبة معه  -باستثناء سورية وليبيا تقريبا- وما تأييد الجهاد والشقاقي اغتيال السادات, ولاحقاً تأييد حركته عمليات الجماعة الإسلامية التي اصطدمت مع النظام المصري مستخدمة السلاح إلا جزء من مظاهر التوتر الفكري والسياسي بين م.ت.ف والجهاد...وطبيعي أن ترعى إيران من هو في صفها قولا واحدا، وأن تعرض عن  أو تتوجس من تيار لا يتبنى هذا التوجه.

هذا ما يتعلق بتأثير علاقة وارتباط الجهاد الإسلامي بإيران وانعكاساته على موقف م.ت.ف من هذه الحركة الجديدة، ولكن –لأسباب سأبينها في مقال آخر- لم يظهر الجفاء أو البرود بين م.ت.ف والجهاد الإسلامي، إلا بعد تقدم عملية التسوية لاحقا، ولكن ماذا عن الإخوان المسلمين في تعاطيهم مع هذه المسألة المهمة؟

 

إخوان فلسطين يتوجسون

 

عند إلقاء نظرة فاحصة على موقف الإخوان المسلمين من الثورة الإيرانية, وصعود الخميني، نرى توجهين اثنين؛ فبلا شك أيد الإخوان المسلمون الإطاحة بنظام الشاه, وفرحوا بتصدر الشعارات الإسلامية واجهة الثورة ضده, وذهب من استطاع منهم -حسب ظروف بلدانهم- لتهنئة الخميني بهذا الانتصار, وأكدوا على وحدة المواقف بين مكونات الأمة وقومياتها (العرب والفرس في هذا السياق) ومذاهبها ( السنة والشيعة) في وجه أعدائها والمتربصين بها... ويؤكد د. موسى أبو مرزوق رئيس المكتب السياسي لحركة حماس سابقا( وهو صديق الشقاقي كما قلنا سابقاً ) على أن الإخوان لم يكن لهم أي موقف سلبي تجاه إيران الخميني, وذلك في مذكراته التي نشرت مؤخراً تحت عنوان ( مشوار حياة..ذكريات اللجوء والغربة وسنوات النضال) فيما يرى الباحث الإسلامي ( محمد الشربيني) في دراسة نشرت قبل بضع سنين على أن ( إخوان فلسطين) هم وحدهم الذين اتخذوا موقفاً متحفظاً من إيران الجديدة, ربما لأسباب تتعلق بحالة الارتباك أو التشكك في حركة الجهاد الإسلامي الجديدة على الساحة, ورؤية الشقاقي للموضوع الإيراني.

فيما فروع الإخوان الأخرى باركت النظام الجديد في إيران, وهذا إجمالاً صحيح, مع تسجيل ملاحظة أختلف فيها مع الشربيني فيما يخص فروع الإخوان غير الفلسطينيين وهي تتعلق بموقف إخوان سورية, حيث أن الشيخ سعيد حوّى وهو من أقطابهم, قد كتب رسالة مطبوعة حملت عنوان (الخمينية شذوذ في العقائد والمواقف) والتي تضمنت نقدا لاذعا لمعتقدات الشيعة، واعتبرت أن الخميني مثل انتكاسة للصحوة الإسلامية.

وهذه الرسالة ستكون متداولة على نطاق واسع نسبياً عند إخوان فلسطين, خاصة في تلك المرحلة... ولكن يمكن فهم الظرف النفسي لتغريد إخوان سورية(وتحديدا سعيد حوى) خارج سرب زملائهم في فروع الإخوان الأخرى, وهو ظرف يتعلق بتزامن صدامهم المسلح مع نظام حافظ الأسد أواخر سبعينيات القرن العشرين والذي امتد إلى نهاية مأساوية في حماة في 1982م وتلقيهم الدعم السياسي والإعلامي وحتى العسكري من صدام حسين، خصم وعدو الأسد والخميني, هذا في الوقت الذي تحالف فيه الأسد مع الخميني تحالفاً وثيقاً.

ولكن ما يهمنا هو موقف إخوان فلسطين؛ فقبل أن يكون الأمر متعلقاً بنظرتهم إلى إيران الجديدة, فإنه يتعلق بنظرتهم المتوجهة تجاه الشقاقي وأفكاره وبالتالي حركته...وهو ما سأناقشه في المقال القادم بعون الله تعالى ومشيئته.

بقلم:سري سمّور

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت