توهان المصلحة السياسية يضرب أطنابه في منطقتنا العربية وفي المشرق العربي بالذات وبعضا من شمال إفريقيا، وقد وصل الأمر في هذا لدرجات من الإنحطاط السياسي حيثُ مَثّلَ ذلك الكثير ممن يروْنَ أنفسهم نُخَبْ ومِمّن يتبوأون مراكز إعلامية ومراكز دراسات.
الفبركة الإعلامية والكذب ومحاولة الحَطْ من الآخر خصمًا كان أو منافسًا أصبح يتصدّر المشهد وا
لعناوين، كأسلوب "هلوويدي" مارسته القوة العظمى الأمريكية كأسلوب "ميكافيلي" في حروبها الشرق أوسطية والتقطه الأتباع كنهج إعلامي مَقيت. وكل ذلك يأتي في ظِلِّ صراع المحاور والتسابق على تأكيد الولاءات لهذا الطرف أو ذاك المحور.
يتضح من طبيعة الصراع القائم على أرضنا العربية وفي منطقتنا أنه صراع يُمثله مِحوران أساسيان ونصف محور يحاول أن يوازن الأمور وفق مصالحه الاقتصادية وأوهامه الإمبراطورية مستندًا لأيديولوجية الدين.
هناك محور الغرب الذي تتزعمه "أمريكا" ومعها إسرائيل والدول العربية المُعتدلة، وهناك محور تتزعمه "إيران" فيما يسمى محور "المقاومة والممانعة" والمتحالف إلى حددٍ ما مع "الصين" و"روسيا" ضمن مفهوم التشابك في المصالح خاصة الاقتصادية وبالذات بما يتعلق بالطاقة والغاز وطرق التجارة ومحاربة الإرهاب "القاعدي" و"الداعشي"، ولكن شروطه البعد عن الصدام العسكري المباشر مع "أمريكا"، على الرغم من أن "الصين" و"روسيا" ترحبان بإضعاف النفوذ الأمريكي في "غرب آسيا" و"شمال إفريقيا" موكلة المهمة في ذلك للمحور الإيراني.
نصف المحور، تُمثله "تركيا-أردوغان" وبإنتهازية تُعبر عن عقلية الأسلمة السياسية حين تتصدر المشهد السياسي، فكيف إذا كانت أصولها "عثمانية"، فمرة يصطف مع أمريكا وينفذ سياساتها ومرة أخرى يجد ضالته في التحالف مع روسيا، وفي كلّ الأحوال، نصف هذا المحور لا مُستقبل له كنتيجة لمواقفه الإنتهازية وأطماعه التوسعية الاستعمارية وسيبقى يلعب في فلك الدول العظمى وضمن هامش مُحدد مسبقًا وحتى يأتي اليوم الذي ينتهي فيه دور الإمبراطور العثماني المزعوم ويتم تغييره داخليا وبطريقة ديمقراطية بحته كما جاء.
والصراع في منطقتنا وعلى أراضينا يشمل كافة النواحي، العسكرية والاقتصادية وحتى يصل إلى المصطلحات والمسميات، فأمريكا تسمي منطقتنا ب "الشرق الأوسط" في حين تعود إيران لإسمها التاريخي الحقيقي وهو "غرب آسيا" و"شمال إفريقيا"، وهذا يدفعنا للاعتقاد بأن طبيعة الصراع تستدعي كافة مكوناته الحضارية والتاريحية في محاولة لفرض المفاهيم الخاصة بكل محور.
النخب العربية السياسية والإعلامية ظهرت وتظهر في هذا الصراع من باب التبعية لهذا الطرف أو ذاك، وحين تقرأ لهم كتحليلات وتصريحات وخاصة بما يتعلق بتلك النخب المرتبطة فكرًا ومصالح مع المحور الأمريكي، تجدها تستخدم مصطلحات وكلمات تُعبّر عن سطحية النص والتحليل، وعن عدم وضوح في الهدف بسبب غياب الاستراتيجية العربية القومية وتعدد مفاهيم الأمن القومي العربي من جهة، ومن الجهة الأخرى تجدها إنتقامية الرؤيا والتفكير كمفهوم ثأري، ومتعصبة في عناوين مذهبية كسياسة للتحشيد لصالح المحور الأمريكي مُستعينة بتاريخ الموروث الذي يشوبه مليون شائبة، أما أصحاب "المقاومة والممانعة" فالرؤيا لديهم أكثر وضوحًا ومرتبطة باستراتيجية واضحة المعالم وأساسها إخراج الأمريكي من منطقة "غرب آسيا" حتى لو كان ذلك في خدمة "إيران" الدولة كون أن المصالح هنا تلتقي في الأهداف القريبة والبعيدة معتقدة بذلك أنها ستحقق أهدافها القومية والتحررية والتي عجزت عن تحقيقها في صراعها المصيري مع الاحتلال الإسرائيلي المتحالف مصيريا مع الولايات المتحدة والغرب خاصة بما يتعلق بالقضية المركزية "فلسطين".
أما النخب الفلسطينية السياسية والإعلامية وغيرها فيسودها توهان وطني مرتبط بطبيعة الحالة المستمرة منذ أكثر من ثلاثة عشرة أعوام كنتيجة للإنقسام وتأثيراته التي فرضت أجندتها على الأطراف ككل من جهة، ومن الجهة الأخرى تَصَدّر الشريحة الزبائنية الاقتصادية-الاحتكارية للمشهد الفلسطيني في تِبعية اقتصادية مُتكاملة مع المُحتَلْ وبشراكة مُتداخلة مع شريحة سياسية لا مُستقبلْ لها دون استمرار الاحتلال للضفة الغربية وبقاء الإنقسام. هذا التوهان جَعَلَ من العامل الرسمي الفلسطيني كقيادة وكدور بغير ذي أهمية في ظلِّ الصراع المُحتدم، بل لم يُعيره أحد اهتمام، في حين زيارة "هنية" رئيس المكتب السياسي لِ حركة "حماس" لإيران أخذت كلّ الاهتمام ولا زالت أبعادها مُستمرة خاصة أنها جاءت في ظلِّ الحديث عن هدنة أو تهدئة طويلة بين "حماس" و"الاحتلال" في قطاع غزة.
التوهان الفلسطيني الرسمي ستتداعى إرهاصاته على الوضع الداخلي وبما يُعزز الإنقسام ويدفع الكُلْ المتآمر للإسراع في وتيرة تطبيق خطة "ترامب" بضم الأغوار والكتل الاستيطانية وبعضاُ من مناطق "سي" تبقى وفق مفهوم السيادة الأمنية لإسرائيل والإدارية للكيانية الفلسطينية، بعد أن تم شطب "القدس" و"اللاجئين" عن طاولة المفاوضات بقرار "ترامبي"، والمُتبقي من أرض الضفة الغربية يبقى على حاله منفصلًا وفي معازل مع إنفتاح اقتصادي كسوق استهلاكي وكمخزن للعمالة السوداء حتى يتم ترويض "غزة" بالسلم أو بالحرب لتلتحق وتُصبح مركز مشروع الكيان الفلسطيني المُقترح جغرافيا واقتصاديا مع الحرية الدينية في الوصول للصلاة في المسجد الأقصى وقبة الصخرة وضمن سياق السيادة الكاملة لإسرائيل، والوصاية الدينية على المُقدسات الإسلامية والمسيحية للجنة من الدول الإسلامية تترأسها إحدى الدول من منطقتنا، على أن تكون هناك رقابة دولية وفق المفهوم السابق لشرطة "التف" الدولية في مدينة الخليل.
إذًا، القضية الفلسطينية بسبب توهان العامل الذاتي الفلسطيني، أصبحت موضوعياُ مرتبطة بشكل كُلي بطبيعة صراع المحاور المُستفحل في منطقتنا، وتداعيات هذا الصراع هي من سيحدد الشكل النهائي ليس للقضية الفلسطينية فحسب بل لكل المنطقة في "غرب آسيا" و"شمال إفريقيا".
في خِضمّ ذلك، فإن دفن الإنقسام وتجديد الشرعيات الرسمية، عبر الانتخابات أو عبر التوافق والشراكة الكاملة وإعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية وعلى أساس استراتيجية وطنية وكفاحية شعبية مُستندة لمفهوم حلْ الدولتين المُجمَع عليه دوليًا ووفق برنامج الحد الأدنى، وحده الكفيل بتخفيف حدة تداعيات الصراع القائم في المنطقة على القضية الفلسطينية وإعادة الاعتبار للعامل الذاتي كلاعب أساسي لا يُمكن تهميشه أو تجاهله، وبقاء حالة التيه الحالية وتحت أي اعتبار لا يُمكن أن تكون إلا سياسة مقصودة للتعاطي مع ما يُخطط وما يُنفذ على الأرض، ويحضرني قول أيقونة فلسطين الراحل والخالد فينا "محمود درويش" : "ولنا أحلامنا الصغرى، كأن نصحو من النوم معافين من الخيبة...لم نحلم بأشياء عصية...نحن أحياء وباقون، وللحلم بقية".
بقلم: فراس ياغي
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت