الاستثمار المسؤول اجتماعياً، مدخل لإعادة هيكلة الاقتصاد

بقلم: هنادي براهمه

هنادي براهمه

كانت مبادرة " سند للأثر الاجتماعي"  في انجلترا هي الضوء الأخضر لتوجيه مئات الملايين من الاستثمارات في سبيل الاصلاح الاجتماعي، حيث أثبت انه يمكن تعبئة الإستثمار الخاص للتصدي حتى للمشاكل الاجتماعية  المعقدة والمستعصية، وهذه المبادرة التي قام بها رجل الاعمال في بريطانيا الذي عُرف بحبه للخير السيد رونالد كوهين، وهدفت الى تخفيض معدل عودة الشباب الجانحين للجريمة بنسبة 7.5%، واستهدفت المبادرة 3000 شاب في بيتر بورو شرقي انجلترا،  وعمل السيد كوهين على اقناع مجموعة من المستثمرين بدعم برنامج التوجيه والدعم الشخصي المصمم بشكل فردي للشباب المفرج عنهم بعد احتجازهم في السجن، وجمع 5 ملايين جنيه لتمويل منظمات القطاع الاجتماعي لتقديم تدخلات مرنة لتلبية احتياجات هؤلاء الشباب السجناء بعد تركهم للسجن لتخفيض نسبة العودة للجريمة، وتعهدت الحكومة البريطانية بالدفع لحاملي السندات تلك في حال نجح المشروع بتحقيق الهدف وحصولهم على عائد يصل الى 13%.[1]

ما هو السند  ذو الاثر الاجتماعي:هو أداة الدين التي تربط مباشرة عوائدها مع نتيجة اجتماعية او سلسلة من النتائج في المصطلحات التقنية ، فائدة رأسم المال المستثمر تؤثر بشكل مباشر على العائد على الاستثمار ROA. وادارة التمويل المبتكرة تلك تدخل بموجبها الحكومة او مفوضين عنها (مؤسسات عامة او دولية) باتفاقيات مع مقدمي خدمات اجتماعية مثل المؤسسات الاجتماعية او منظمات غير ربحية ومستثمرين مقابل ثمن يُحسب بتقديم نتائج اجتماعية محددة مسبقاً[2].

وبشكل أكثر تحديداً، تقوم المؤسسة المصدرة للسند بتجنيد الاموال من مستثمري القطاع الخاص والجمعيات والمؤسسات، توزع الاموال على مقدمي الخدمات لتغطية تكاليفهم التشغيلية، وفي حال تحقيق النتائج الموافق عليها، تستكمل الحكومة الدفعات المستحقة للمؤسسة المصدرة للسند او للمستثمرين، مثلاً في بريطانيا ما يزيد عن 30 سند للاثر الاجتماعي تدعم عشرات الآلاف من المستفيدين في مجالات كالبطالة والصحة العقلية، والمشردين.

الشركات المسؤولة اجتماعياً :تعددت التعريفات " للشركات الاجتماعية، او عرفت ايضاً (الشركات المسؤولة اجتماعياً)، بناءً على تطبيقاتها واستخداماتها في اجزاء مختلفة من العالم، فقد عرَفها [3] Defourny and Nyssens على انها منظمات أعمال تسعى لتحقيق أهداف إجتماعية(الرفاهية الاجتماعية) واقتصادية(الربح) في آنٍ واحد. أما Dart فرأى ان أهم ما يميز تلك الشركات الاجتماعية عن المنظمات غير الربحية، هو استخدامها لنفس آليات وطرق عمل الشركات الربيحة والتجارية لتحقيق اهداف اجتماعية، وأهم أسباب ظهور هذا النوع من الشركات هو فشل الدولة والسوق في توفير السلع والتأمين الاجتماعي وتقليص الدعم الحكومي والتنافس على التبرعات بعيداً عن الاطار المعُد له، واهم ما يميز هذه الشركات فكرة مراعاة الاستدامة ما بين الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، واهتمامها بشكل أساسي في رأس المال الاجتماعي.وبلا شك فإن هذه الشركات الاجتماعية تساهم في تقديم الخدمات الاساسية للمجتمعات الفقيرة والمحرومة، من خلال المساهمة في تنمية رأس المال البشري وتطبيق طرق مبتكرة لمواجهة المشكلات الاجتماعية والتي فشلت المنظمات المجتمعية العامة والخاصة التقليدية في حلها.

أخذت تجليات عديدة في تاريخ الاستثمار والمستثمرين، فمن يقع عليهم مصطلح المحسنين ما هم الا مستثمرين أرداوا ان يقتسموا جزءاً من الربح مع الجماعات الاقل حظاً في المجتمع، وعبر الازمنة كان لهؤلاء المحسنين دور كبير في دفع عجلة التنمية البشرية ورفعوا شعار المسؤولية الاجتماعية لجميع الفاعلين التنمويين، والحد من النظام الرأسمالي الاحادي الجانب، وتبلور مفهوم الاستثمار ذو الاهداف الاجتماعية، والسعي لوقف الرأسمالية التي تؤثر على الدخل وتساهم في إضعاف الناس الاقل حظاً والاكثر تضرراً في المجتمع.

مستثمرون إجتماعيون :يعتبر الدكتور محمد يونس مؤسس بنك غرامين او ما يعرف(بنك الفقراء) في بنغلاديش أحد اعلام الدعوة الى العدالة الاجتماعية بشكل عملي، وبنك غرامين متخصص في التمويل الصغير الذي يهدف الى رفع دخل القرويين الفقراء بشكل عام والنساء بشكل خاص، اذ يستفيد منه حالياً ثمانية ملايين ونصف المليون أسرة في بنغلاديش.

  بذل د. يونس جهداً لحشد المستثمرين لتنفيذ خطته للقضاء على التسول، من خلال تحويل المتسولين والمسجونين الى منتجين واصحاب مشاريع، وتحويلهم الى مواطنين صالحين، بالإضافة الى تنفيذ مشاريع كبيرة مع شركات عالمية لانتاج الزيادي للقضاء على أمراض سوء التغذية خاصة لدى النساء والاطفال، ومشاريع أخرى لمحاربة العدو الثلاثي" الجهل، الفقر، والمرض"، وكذلك مشاريع إنارة القرى بالطاقة الشمسية بدلاً من الكهرباء، وإدخال المياه النظيفة لتلك القرى، وتنفيذ مشاريع لتعليم الامهات والفتيات المتسربات من التعليم  وادماجهن بسوق العمل باعتبارها أحد أهم مشاريع القضاء على الفقر والبطالة معاً، ويعتبر د. يونس أن دخول المستثمرين الى السوق سيجعل منه اكثر اثارة وتنافسية، بحيث لن يكون هناك تنافس حول الجودة في المنتج والثمن وما الى ذلك من عناصر التنافس الكلاسيكي.

اثبتت التجربة نجاحها و بدأت في الانتشار في العديد من دول الشرق الاقصى (الصين،الهند، اندونيسيا، ماليزيا)، بعض دول امريكا الجنوبية الفقيرة والمتوسطة، تنفيذ برامج بالشراكة مع (جرامين امريكا) في نيويورك، ولوس انجلوس وفي العديد من الدول الاوروربية (مثل فرنسا وايطاليا) لمصلحة الفقراء، والتي حسنت من المستوى الاقتصادي للسكان في تلك المناطق.

الشركات المسؤولة اجتماعياً في الوطن العربي: يوجد في الوطن العربي العديد من المشاريع الاجتماعية والتي نشأ معظمها مؤخراً لحل قضايا تتعلق بمشكلات الفقر والبطالة والأمية والهجرة والحروب، في مصر نشأ مشروع" جذور"، والذي تعتمد فكرته على الاستفادة من المخلفات الزراعية وتحويلها الى خشب يستخدم في صناعة الاثاث المنزلي والتصاميم الداخلية الأخرى، وذلك بهدف الحد من التلوث الناجم عن حرق هذه المخلفات وتوفير فرص عمل للشباب في المناطق الريفية، و بيع المنتجات في الاسواق الاقليمية والعالمية.

شركة تنمية نفط عُمان رأت من أنه أهم عوامل النجاح هو علاقة العمل الوثيقة بين الشركات والمجتمعات التي تعمل في محيطها وكل الجوانب في السلطنة، و على هذا الاعتبار صممت برنامجاً للاستثمار الاجتماعي لتنفيذ مبادرات بالتعاون مع الحكومة، و يركز البرنامج على المساهمة في نمو المجتمعات وتطوير المناطق التي تعمل بها، لتحقيق منافع مشتركة وبيئة مستدامة الى جانب تنفيذ نشاطاتها في استكشاف النفط والغاز وانتاجهما، ويقدم البرنامج دعماً مالياً للجمعيات الاهلية بهدف مساعدة ذوي الحاجة في المجتمع كذوي الاعاقة البصرية او الجسدية فضلاً عن التركيز الخاص على المشاريع التي ترفد العُمانيين بالمهارات التي تمكنهم من الدخول الى سوق العمل والحصول على مصدر دخل.

وتجربة أخرى، وهي شبكة" دُبارة"، منصة إلكترونية تشاركية تقدم خدمات دعم ومشورة للسوريين اللاجئين من خلال ربطهم بمقييمن سوريين او عرب لديهم فكرة مسبقة أو حلول للمشكلات التي تواجههم، وعرض فرص عمل لهم في دول اللجوء، وتزويدهم بالمعلومات الاساسية التي يحاتجونها في حال هجرتهم .

الاستثمار الاجتماعي في فلسطين:حيث أن المشاريع الاجتماعية تتشكل بناءً على الانظمة والقوانين المتاحة في كل دولة، ففي فلسطين تعتبر التعاونيات واحدة من أشكال المشاريع الاجتماعية، لما بها من دور اقتصادي و اجتماعي وتنموي خاصة في مجال مساهمتها في الدخل القومي وخلق فرص عمل و توليد الدخل ومحاربة البطالة و تخفيض الفقر.

اطلق في العام الماضي " اول سند للأثر الانمائي، لتنفيذ مشروع " التمويل لخلق فرص عمل"،  من خلال تطوير المهارات والتوظيف لنحو 1500 مستفيد من الشباب الفلسطيني تتراوح اعمالهم18-29 عام .

وسند الاثر الانمائي يعتبر اداة مالية مبتكرة  تستند الى مبدأ التمويل المبني على النتائج، تهدف لتنمية مهارات الشباب لجسر الفجوة بين مؤهلات الباحثين عن عمل ومتطلبات السوق الفلسطيني والمساهمة في توظيفهم من خلال مزودي خدمات محليين في قطاعات اقتصادية مختلفة، عن طريق حشد وتجنيد استثمارات مجدية ذات عوائد اقتصادية اجتماعية تتصدى لمشكلة البطالة والفقر.

جاء هذا المشروع كمبادرة من مستثمرين ذوي توجهات تنموية وهم صندوق الاستثمار الفلسطيني، والبنك الاوروربي لاعادة الاعمار والتنمية، وبنك التنمية الهولندي، وشركة  Invest Palestine، وصندوق الاستثمار الفلسطيني-التشيلي"بذور الزيتون"، بتوفير راس مال خاص بقيمة 1.8 مليون دولار مقابل تخصيص 5 مليون دولار من البند الدولي الصندوق الانمائي، بحيث يكون بالشراكة بين القطاعين العام والخاص بتوفير الظروف الملائمة للنشاط الاقتصادي.

وفي تجربة أخرى بالتحديد في قطاع غزة، التي عانت منذ أكثر من 13 عام من أزمة انقطاع الكهرباء، حيث يحتاج  ما يزيد عن 2 مليون شخص الى نحو 500 كيلو واط كهرباء لممارسة حياتهم اليومية، ولا يحصلوا على نصفها، جعل المهندسة الشابة مجد المشهراوي تبادر بانشاء شركة  Sun Box، التي تقوم بتصميم و توفير جهاز لتوليد الكهرباء من الطاقة الشمسية ، من خلال ألواح تثبت على سطح منازل الأسر ذات الدخل المنخفض لتولد 1000 كيلو واط من الكهرباء يومياً، بتكلفة الجهاز 350 دولار فقط، الذي أحدث فرقاً لدى حياة العديد من الاسر في قطاع غزة، إذ أصبح بامكان أطفالهم تأدية واجباتهم المدرسية، وحفظ حاجاتهم وطعامهم لفترات طويلة، وحتى القدرة على تشغيل بعض الاجهزة الطبية لديهم، إضافة الى مشاركة جيرانهم من الأسر باستخدام الكميات المتولدة من الكهرباء.

 ويعتبر مشروع المهندسة مجد نموذج اعمال اجتماعية اقتصادية واعية بيئياً.

فالمستثمرون الاجتماعيون الذين يسعون الى استرداد كافة النفقات وجزءاً من الربح ضمن توجه متعدد الأبعاد الذي يوزاي بين الربح و الاهداف ، هؤلاء هم الذين سيحدثون التغيير في اقتصادات البلاد.

بقلم :هنادي براهمه
مدير دائرة الموازنة زوارة التنمية الاجتماعية

 

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت