فشلت حركة النهضة (الإسلامية) في تطويق أزمتها الداخلية، بعد إعلان أحد أبرز قيادييها عبدالحميد الجلاصي استقالته من الحركة، فاتحاً الباب على أسئلة كثيرة حول ما تمرّ به الحركة، التي كانت إلى وقت قصير تتباهى بكونها الحزب الوحيد في تونس الذي حافظ على تماسكه في السنوات الأخيرة!.
وتسلّط استقالته الضوء على عمق الخلافات بين قيادات «النهضة»، وخصوصاً في الفترة الأخيرة، بين شق داعم لرئيس الحركة، وشق آخر ينتقد بشكل علني استئثار الغنوشي بجميع الصلاحيات. ويُعدّ احتكار الغنوشي لزعامة الحركة، في نظر كثيرين، أحد أبزر دوافع الاستقالة، إضافة إلى «أخطاء الحركة في طريقة إدارتها للحكم في الفترات السابقة». وكان الجلاصي أكد (7/3)، أن قرار استقالته لا رجعة فيه، «حتى وإن أعلن رئيس الحركة على الملأ عدم ترشحه لعهدة أخرى على رأس النهضة»!.
وكان الجلاصي من القياديين البارزين الذين وجهوا انتقادات حادة وعلنية لطريقة تسيير الحركة. كما عبر عن تخوفه من أن تلقى النهضة مصير نداء تونس، الذي عرف انقسامات حادة أدت إلى انشقاقه إلى عدة أحزاب وخسارته الانتخابات التشريعية الماضية.
ولفت الجلاصي في رسالة الاستقالة إلى أن طول مدة التمسك بمواقع القيادة «يؤدي إلى بروز ظواهر مرضية وإلى تغليب مقياس الموالاة والمسايرة على اعتبار الكفاءة واستقلال الشخصية، وهو ما يسمى في فنون الحوكمة اليوم بالفساد»، على حدّ تعبيره.
وعلى رغم أن الأمر قد لا يصل إلى حدّ الحديث عن «تصدع عميق داخل النهضة»، إلا أنّ الاستقالة تحطّ من الصورة التي لطالما سوّقتها الحركة لنفسها، وتنزع عنها «جبّة الزهد والتدين، والتزام الجميع بخط الجماعة»، كما تتفاخر دائماً. وخاصة بعد كشف صاحبها عن الكثير من الجوانب السلبية؛ سواء ما تعلق منها بالشأن الداخلي للحركة وسيطرة الغنوشي على القرار، أو ما تعلق منها بعلاقة الحركة بالدولة و«عقلية الغنيمة»!.
وتتخوف أوساط مقرّبة من النهضة أن يؤثر تراكم الاستقالات على قاعدتها الشعبية والانتخابية، علماً أن «النهضة» شهدت استقالات عدة منذ وصولها إلى الحكم بعد الثورة (2011)، من أبرزها استقالة القيادي رياض الشعيبي (2013)، وأمينها العام حمادي الجبالي (2014)، وكذلك رئيس مكتب رئيس الحركة زبير الشهودي (2019)، تلتها استقالات أخرى كان آخرها لأمينها العام زياد العذاري في تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 من المناصب القيادية، ثم استقالة هشام لعريض وزياد بومخلة مطلع العام الجاري.
المستقيلون واحتمال المناورة؟
وقد قرئت استقالة الجلاصي لدى المحللين التونسيين على مستويات وأنساق عدة؛ أحدها أن تكون «مناورة» تندرج في إطار سعيه لتحقيق بعض المكاسب الشخصية، وخصوصاً بعد أن تمّ تهميشه في الآونة الأخيرة.
وحسب أنصار هذا الرأي، فإن الجلاصي ليس أول من فعل ذلك، فقد سبقه لطفي زيتون، الذي عاد إلى الحركة من بوابة الوزارة في حكومة إلياس الفخفاخ، على رغم أنه كتب «رسالة غاضبة» شبيهة برسالة الجلاصي، وإن كانت أقل حدة وراديكالية وعمقاً لاختلاف المواقع. وكان لوّح، في رسالته الغاضبه، بتشكيل حزب وطني محافظ، تحت مبرّر التخلي عن «توظيف المقدس لينكبّ على مشاكل البلاد المعقدة».
أي أنّ «التقييمات المهمة» التي تعكسها رسائل الغاضبين، قد تكون مرتبطة بـ«فقدان المكاسب والحظوة»، في حركة باتت قبلة للباحثين عن المزايا والحصول على مواقع متقدمة في مؤسسات الدولة، لكنها سرعان ما تفتر وتختفي مع أول مغازلة من الغنوشي وفريقه.
وعليه، فإن تلميح الجلاصي إلى التحرك في إطار «مشروع جديد»، ربما تكون «ورقة ضغط» على الغنوشي، الذي يحتاج الآن إلى «تبريد الجبهة الداخلية للتفرغ إلى معارك الحكومة والبرلمان، وطمأنة دوائر المال المحلية والدولية»، كما يقول البعض.
صراع مواقع
وهناك من قرأ استقالة الجلاصي في إطار الصراع على المواقع القيادية داخل الحركة، إذ يعتبر الجلاصي «مهندس التنظيم السري» في مرحلة المواجهة مع الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وهو كان يمتلك نفوذا قويا في الحركة، واستقالته تعود في جزء منها إلى خسارة ما بات يعرف بالجيل المؤسس لنفوذه لفائدة أجيال جديدة لا علاقة لها بالسجون والعمل السري.
ويشير أنصار هذا الرأي إلى «صراع حقيقي داخل النهضة بين جيل كان المالك الوحيد للقرار والحامل للشرعية النضالية والتاريخية، ويعتقد أنه الأولى بأن يظل في موقع متقدم، وبين جيل آخر يضم فئة العائدين من الخارج (الأقرب إلى التكنوقراط) الذين لا تعنيهم قضية النضال وتجربة السجون، وباتوا الآن القادة الفعليون للحركة».
وهناك من يرى أنّ رسالة استقالة الجلاصي تُثبت الأزمة العميقة والمستعصية التي يعيشها الجيل الثاني في الحركة. وقد تقاطع في التعبير عن هذا الأمر الجلاصي مع زياد لعذاري وعبداللطيف المكي، ولفيف آخر من أبناء هذا الجيل، مشيرين أغلبهم إلى أزمة في «حوكمة النهضة ودمقرطة الحركة والتسليم بتدافع الأجيال وبتغير الشرعيات وفق تطور الزمن السياسي».
ومنهم من ذهب حدّ الحديث عن «استعصاء في تحوّل الحركة الإسلامية من جماعة إلى حزب، في ظل سلطة المؤسّس، ورسوخ السلطة الحزبية والإدارية في يد واحدة»، في مُقابل وجود أجيال جديدة «لا تهمها كثيراً شرعية النضال والعمل السري وسنوات الجمر وسرديات المظلومية»، وترى أن «الزمن قرين التغيير والتثوير».
وإلى ذلك، فعندما يشير الجلاصي في حديثه إلى «الشللية والتدخلات العائلية»، فمن الواضح أنه يقصد بذلك النفوذ الذي صار يتمتع به الوسط العائلي للغنوشي، وخصوصاً صهره رفيق عبدالسلام، الذي بات ملازماً له أينما ذهب، ويشغل أغلب المناصب القيادية، بصفة معلنة أو غير معلنة.
استعصاء الأزمة الداخلية!
وعلاوة على ذلك، فثمة من رأى أنّ الاستقالة تمثل تعبيراً عن عمق الخلافات الداخلية التي تعصف بالحركة، وذلك قبل مؤتمرها الحادي عشر الذي يُفترض، مبدئياً، أن يُعقد في شهر أيار/ مايو القادم. ويفترض أصحاب هذا الرأي أن تضع استقالة الجلاصي، وما أثارته من ردود فعل وجدل، الغنوشي أمام خيارين: «إما الانسحاب من رئاسة الحركة، أو المضي قدماً في تجاهل الأصوات المطالبة بالتغيير».
وشدّد الجلاصي في رسالة الاستقالة على أنّ الحركة «لم تمرّ في تاريخها بمثل حالة المركزة الراهنة؛ احتكار القرار في الموارد والمصالح... وبمثل حالة التهميش للمؤسسات». وختم اعترافاته بحقيقة صادمة لجمهور الإسلام السياسي عندما قال: لقد «تم استنزاف الرصيد الأخلاقي والقيمي والأركان التأسيسية؛ مثل الصدق والإخلاص والتجرد والإيفاء بالتعاقدات والديمقراطية والانحياز الاجتماعي والنبض التغييري».
لكن ومع ذلك، فقد استبعد مراقبون أن تقود الاستقالة إلى تغييرات نوعية، مُرجّحين أن «يبقى الخط الغالب للحركة تحت جبة الغنوشي، الذي يمتلك عناصر قوة تمكنه من بسط نفوذه لفترة طويلة»، كما قالوا، ومن أهمّ تلك العناصر؛ المسألة المالية التي تتحكم بقرار مئات المتفرغين من القيادات التاريخية، ومسألة الانتداب إلى مؤسسات الدولة في سياق المحاصصة الحزبية.
هنا يسجّل البعض للغنوشي براغماتيته العالية وقدرته على التكيف مع متطلبات الواقع التونسي، فإذا كانت «النهضة» قد حافظت على شبكة علاقات خارجية في إطار علاقتها بمحور «الإسلام السياسي الإقليمي»، كفرع سابق من فروع الإخوان المسلمين، إلا أنّ سلوكها المحلي سعى إلى العكس من ذلك؛ وهو محاولة «تبديد الشكوك القوية في الساحة التونسية بشأن قدرتها على أن تتحول من حزب بإيديولوجيا عابرة للأوطان، إلى حزب يتواءم مع قيم الدولة الوطنية». وفي سبيل ذلك، عملت الحركة، تحت قيادة الغنوشي، على التخلّص من رموزها التاريخية المتشدّدة، أمثال حبيب اللوز والصادق شورو!.
فؤاد محجوب
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت