ايا صوفيا .. جدلية السياسة والدين

بقلم: ناجى احمد الصديق

  • بقلم \ ناجى احمد الصديق الهادى   - محامى  - السودان

لم تعد امور فى عالم اليوم على درجة  كافية من الوضوح  بحيث نستطيع الجزم بحقيقة ما من خلال ما يقال عنها من كلمات او ما يصدر فيها من قرار او ما يسطر لها من تقرير ، فعالم اليوم يكون فيه ما بين الجمل والسطور اكثر ما فيه ما تعنيه تلك الجمل والسطور كان هذا فى مجال الدين او السياسة او الاقتصاد او الاجتماع وعلينا تبعا لذلك عدم الركون الى الكلمات بمعانيها المعروفة  بل يتحتم علينا ان نغوص فى أعماق تلك الكلمات ونستبين الظروف ونحلل الوقائع حتى نصل الى المعاني الحقيقية .. فعالم اليوم هو عالم التهويم لا الحقيقة لان الحقيقة المجردة لا يملكها الا الحكام والطاقم الذى يساعدهم فى تلك نشر تلك التهويمات

قرار محكمة مجلس الدولة الإدارية العليا فى استانبول بتحويل متحف أيا صوفيا الى وضعه الطبيعي كمسجد كان واحدا من القرارات التى ثار بشأنها الجدل ، ليس لان القرار كان صائبا او خاطئا لان الخطأ والصواب فى قرارات المحاكم ليس من الأشياء التى تثير الجدل بين الناس فالجدل حول قرارات المحاكم مكانه منصات القضاء ، وليس لان قرار المحكمة كان تدخلا فى شئون الآخرين فشأن المحاكم الوطنية دائما هو فض النزاع بين أشخاص الدول الطبيعيين والاعتباريين دون التعدي الى أشخاص دولة أخرى ، ولكن لان قرار المحكمة التركية كان يمس العقيدة الإسلامية  كما يرى المسلمون تماما كما يمس العقيدة المسيحية كما يرى المسيحيون ولان قرار المحكمة كان يلبى اشواق مناصرو الرئيس التركى فى تعاطيه مع اذمات الحكم  تماما كما يدغدغ احلام المعارضين فى دفعهم المستمر نحو تهجم الإسلام على بقية الاديان واتخاذ مشاعر المسلمين سبيلا لذلك التهجم ،وبين جدلية الدين والسياسة تتهوه بنا التحليلات من أصالة قرار المحكمة وعدم تدخل الدولة فيه كشأن داخلى لا يمت لغرض دينى وسياسي للسلطات ، الى توجيه السلطات فى تركيا الى إصدار القرار لإغراض دينية ذات صبغة سياسية  فاين اى يقف ايا صوفيا بين جدلية السياسة والدين التى كادت ان تعصف بكل العقائد

أقيمت ايا صوفيا اول مرة ككنيسة فى عام 537  بامر من الإمبراطور .البيزنطي يوستاريوس الاول 527- 565 لتكون صرحا دينيا لا مثيل له فى العالم المسيحى ، بعد ان فتح السلطان العثماني محمد الفاتح القسطنطينية عام 1453 قام بتغيير اسمها الى استانبول  ودخل كنيسة ايا صوفيا وصلى فيها او جمعة وجعلها بعد ذلك مسجدا كبيرا ويبدو انه قام باجراءت قانونية لدى دوائر التسجيل تحولت بموجبها بصورة دائمة الى مسجد ومنذ ذلك الوقت أصبحت ايا صوفيا جامعا إسلاميا عظيما ورمزا اسلاميا معروفا الى ان ظهر الزعيم التركي كمال اتاتورك وانهى حكم العثمانيين وقام بتحويل المسجد الى متحف فنى يضم كنوزا إسلامية ومسيحية.

لا نعلم ماهى الأجندات التى دفعت كل من السلطان محمد الفاتح والزعيم كمال اتاتورك الى  التحويل من كنيسة الى مسجد او من مسجد الى متحف ولكن الأجندات الدينية والسياسية هى التى تدفع الحكام الى استثارة عواطف الناس لهذا فان اللجوء الى العواطف الدينية  كان وما يزال هو المحرك الاول للحكام لتحقيق مآربهم السياسية وان كنا لا نستطيع الآن التحقق من الأهداف الأساسية الكامنة وراء التحولات الاولى  لصرح ايا صوفيا سواء من جانب السلطان محمد الفاتح او من جانب كمال اتاتورك الا اننا يمكن ان نتعمق فى هدف الرئيس اوردغان من وراء تحويل اياصوفيا الى مسجد كما يمكن ان نتحقق ايضا من ردود الفعل العنيفة فى بعض الاحيان من جانب بعض الدول على ذلك التحويل.

لا بد من الإشارة الى ان دولة تركيا تعتبر دولة إسلامية لان نسبة المسلمين فيها اكبر من غيرها ولأنها كانت فى يوم ما معقل الدين الاسلامى ابان عهد الخلافة العثمانية ولهذا فانه ليس مستغربا ان تكون فيها مظاهر الإسلام بارزة وواضحة كان ذلك على مستوى المؤسسات الإسلامية ومن بينها المساجد او على مستوى التمسك بتعاليم الإسلام  وتوجيهاته وترتيبا على ذلك فان للمساجد فى وجدان المسلمين حظا كبيرا ويتم التعامل معها بحس وجدانى كبير لان المسجد هو بيت الله واحرى بالمسلم من الحفاظ على بيت الله والدفاع عنه حتى الموت

تقول وقائع التاريخ ان الأحزاب الإسلامية فى تركيا لم تتناسى ايا صوفيا فهناك الكثير منهم يرى ا نايا صوفيا يجب ان يعود مسجدا مرة اخرى وقد تبلور هذا الاتجاه بصورة واضحة منذ استلام حزب العدالة والتنمية الاسلامى مقاليد الحكم هناك ، فى عام 2013م اعلن اردوغان حينما كان رئيسا للوزراء انه لم يفكر فى امر ايا صوفيا ما دام هناك صرحا إسلاميا كبيرا شبه خالى مسجد السلطان احمد وكان ذلك كما يبدو على خلفية مطالبة بعض الجمعيات الأهلية الإسلامية بالنظر فى تحويل ايا صوفيا الى مسجد ومع توالى تلك المطالبات سمحت حكومة حزب العدالة والتنمية بفتح مسجد فى الجزء الخلفى من المبنى فى عام 2016م ، ثم قامت رئاسة الشئون الدينية والأوقاف بإصدار قرار بتلاوة القران يوميا بايا صوفيا خلال شهر رمضان المعظم من عام 1937هـ .

يبدو ان الحكومة التركية قد رأت عدم الزج بنفسها بقرارات إدارية فى مسأـلة تحويل ايا صوفيا الى مسجد كما يبدو أيضا ان كانت على دراية بحساسية التعامل مع تلك المسألة من جانب المجتمع الدولى وخاصة المسيحي منه ومع ذلك فإننا نرى ان اتجاه الدولة كان يدفع نجو ذلك التحويل حتى وان كان من باب الأمنيات والرغبات وتركت السلطات فى الحكومة التركية امر التحويل للقضاء بحيث يستطيع الطرف الذى يرى احقية ذلك التحويل من اللجوء للقضاء ليفصل فى الامر بقرار قضائي وليس إداريا ولا يخفى على احد الفرق الكبير بين الفصل امر التحويل بقرار قضائي وبين اصدار قرار ادريا من سلطات الدول ، فالاول يعتمد على بينات وشهود وقانون والثاني يرتكز على تقديرات شخصية وبهذا ترى السلطات التركية بانه لا يد لها بتحويل ايا صوفيا من متحف الى مسجد فالأمر أصبح برمته بين يدى السلطات القضائية ومن يتضرر عليه اللجوء اليها. وبالفعل قام مجلس الدولة وهو اعلى سلطة قضائية فى تركيا باصدار قرار يبطل فيه الوضع الذى كانت ايا صوفيا توصف بموجبه كمتحف  وقالت المحكمة فى حيثيات حكمها ( ان ايا صوفيا مسجلة  كمسجد فى مستندات الملكية التى تحمل اسم مؤسسة محمد الفاتح  وهو السلطان العثمانى الذى كان قد ضم القسطنطينية الى الدولة العثمانية وان هذا الوصف غير قابل للتعديل) .

يقول معارضو حكومة اوردغان  ان الهدف من تحويل ايا صوفيا هو إعادة الابتزاز وشحن العواطف والبسطاء من المسلمين فى وقت تتراجع فيه شعبية اوردغان ، كما وجد القرار ردود فعل متفاوتة بين العنيفة كما حدث فى رد الفعل اليونانى ومتوازنة كما هو فى رد الفعل الاوربى  واذا كنا نتفهم ردود الفعل العنيفة من قبل المسؤلين اليونانيين للتوترات الشديدة الموجود تاريحيا بين البلدين من ناحية والشعور الدفين لدى اليونان بافول مجدهم الذى كانت ايا صوفيا واحدة من معالمه البارزة فاننا لا نجد سببا لردود الفعل العربية والإسلامية من التى نددت بتحويل ايا صوفيا إلا من باب الأجندة السياسية التى درجت على توظيف كل الأحداث حتى وان كانت خيارات دولة تتمسك بهويتها الإسلامية

لا ينكر احد ان قار التحويل جاء لمصلحة الرئيس اردغان فى سياق تعاطيه مع التوترات التى تشترك فيها تركيا فى الشرق الأوسط كما انها جاءت فى صالحة فى سياق التنافس الداخلي مع خصومه فى المعارضة ولكن واجهة الأحداث تخبرنا بان قرار تحويل اياصوفيا كانت بقرار قضائي  اولا وثانيا فان أمر التحويل مهما كانمت ظروفه هو شأن تركيا داخليا ليس لدولة خارجية التدخل فيه وواجهة التى نعنى هى الصورة التى تنقلها لنا وسائل الإعلام اما خفى من تلك الصورة فليس لنا من سبيل للوصول اليها غير التحليل ، والتخليل لدينا هو ان حكومة اردوغان كانت تدفع نحو ذلك التحويل وهى تنظر الى وضعها فى ليبيا وفى سوريا ورؤيتها لمجمل التحالفات والاصطفافات الإقليمية والدولية ولكنا كعادتها سلكت سبيلا مشروعا نحو ذلك الدفع وليس اكثر مشروعية من طريق القضاء ليصل به المرء الى حاجته

ينظر الى أيا صوفيا بانها تمثل رمزا عالميا له وزن خاص لدى المسلمين والمسيحيين على السواء وهى مقصد سياحى للملايين من كل إنحاء العالم وهى مدرجة ضمن الآثار التراثية لمنظمة اليونسكو  لهذا يبدو ان السلطات التركية قد جعلت المسجد مفتوحا كمعلم سياحى للناس من كل إنحاء العالم  وهو بهذا لايجب ان يكون من أجندة الاختلاف الديني او السياسي بين المحاور المتصارعة الى حد الموت فى عالم اليوم

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت