- بقلم: شاكر فريد حسن
مما لا شك فيه أن الفولكلور هو مرآة لهوية الشعوب وملامحها الخاصة وبصماتها المتميزة، وقد سعت شعوب العالم كافة إلى احتضان فولكلورها ودراسته وحفظه من الضياع. وينطوي الفولكلور على ركام يختلط فيه التراب بالتبر، وجمع الفولكلور الشعبي الفلسطيني بألوانه المتنوعة ودراسته ونشره يشكل مهمة وطنية جليلة بامتياز، لترسيخ الانتماء ولتأكيد الهوية الفلسطينية. والبحث في تراثنا الشعبي الفلسطيني ليس عملًا أكاديميًا فحسب، وإنما هو نضال هدفه الأسمى الحفاظ على الهوية القومية لشعبنا الفلسطيني أمام محاولات المسح والتشويه والتذويب والضياع وتزوير التاريخ الشفهي الفلسطيني، واغتيال الذاكرة الثقافية الفلسطينية.
ومن هنا تنبع أهمية كتاب الباحثة الفولكلورية المربية الفحماوية لميس حبارين، الصادر حديثًا، بعنوان "اغاني الاعراس والامثال في الوادي الأخضر" الذي نطل من خلاله على الفولكلور الفلسطيني.
مؤلفة الكتاب لميس جبارين من مواليد أم الفحم، أنهت دراستها الابتدائية فيها، ثم انتقلت للدراسة في مدرسة مار يوسف الثانوية في الناصرة، وهي من الرعيل الأول الذي أنهى الدراسة الثانوية خارج أم الفحم لعدم توفر مدرسة ثانوية آنذاك فيها، ثم أكملت دراستها العليا وحصلت على شهادة البكالوريوس في التربية سنة 1996، وحاليًا تستكمل دراستها للحصول على الماجستير في الأدب العربي. وكانت اشتغلت في مهنة التدريس في جيل مبكر، وتنقلت بين مدارس عديدة في كفر قرع ومصمص ومدارس أم الفحم ابن خلدون والمتنبي وعمر بن الخطاب والزهراء، وفي العام 2004 خرجت للتقاعد. ونشطت في عدد من الجمعيات التطوعية والثقافية في أم الفحم، وانشأت مع عدد من زميلاتها وبالتعاون مع السلطة المحلية، مدرسة للكبار استمرت عدة سنوات لمحو الامية وتعليم الامهات اللغتين العربية والعبرية والحساب.
وهذا هو الإصدار الأول للميس جبارين، ويقع في 244 صفحة من الحجم الكبير، وطبع بمطبعة توب برنت في مرج ابن عامر، وصمم غلافه الفنان حمزة ابو عياش، وقام بطباعة النصوص رباب ابو حطب وهدى سباعنة ، وراجعه ودققه لغويًا شريك حياتها الأستاذ يونس جبارين، وأهدته إلى:" الذين لم يولدوا بعد.. إلى أبي الذي علمني حبّ التعلم.. ذكرى حزن ولهفة متأخرة.. إلى أمي التي ساعدتني في جمع الأغاني والأمثال. إلى أفراد عائلتي.. إلى الكاتبة والروائية الفلسطينية أسماء أبو عياش ولنجلها الفنان حمزة أبو عياش اللذين أسهما في إخراج الغلاف إلى حيز التنفيذ.. إلى الأستاذ الكاتب فتحي فوراني الذي اقترح علينا تسمية الكتاب.. وإلى شعبنا في كل أماكن تواجدِهِ والذي يحمل التراث إرثًا وهوية. إلى أوغاد العالم الكبار، لعنةً كبيرة.. وإلى الباحثين عن حقيقة وجودنا والرافضين لأي انحناء. وإلى شريكي في رحلة الكتاب.. زوجي الغالي الأستاذ يونس جبارين الذي كان صبره قلعتي الأخيرة ضدّ الظلام. وإلى كل من ساعد في إخراج هذا الكتاب إلى الحياة".
يشتمل الكتاب على أغاني الأعراس والمهاهاة والأمثال الفلسطينية لأم الفحم وقراها ووادي عارة الأخضر. وفي مقدمة الكتاب تؤكد لميس على أهمية جمع التراث وحفظه من الضياع، فهو- كما تقول – غاية سامية، بل هي وسيلة للتواصل بين الأجيال، ويعزز التفوق والتميز، ويقرب الأمم، كذلك يعزز الانتماء للأرض، ومبدأ التعاون، ويثري روحنا المعنوية ويدفعنا إلى التفوق.
وتشير لميس أنها ادركت أهمية جمع هذه الأغاني والأمثال الفلسطينية خلال حضورها للأعراس، لأن الجيل الجديد من الصبايا والنساء، أخفقن في حفظها، وانقطعن عنها. وقد استغرق جمع وتدوين مواد الكتاب أكثر من أربع سنوات، وأنها كانت أمينة على حفظ الأغاني ونقلها كما هي، وهذه الأغاني تعود إلى أيام الدولة العثمانية، الانتداب البريطاني، نكبة 48 وفترة الحكم العسكري الذي امتد من سنة 1948 حتى 1966 وإلى أيامنا هذه.
وهي تؤكد أن الهدف من وراء نشر هذا الكتاب هو هدف اجتماعي إنساني ووطني.
وفي المقدمة التي كتبها الأستاذ د. صلاح جرّار، وزير الثقافة الأردني سابقًا، والامين العام لوزارة الثقافة بين الأعوام 1999- 2002، يقول: "لقد أبدعت الكاتبة الأستاذة لميس جبارين، وهي تصف لنا بصورة تبعث الأشجان في النفس عن العرس الفلسطيني في أم الفحم (أم النور) ووادي عارة (الوادي الأخضر) بكل مراحله وتفاصيله بدءًا من الجاهة وانتهاءً بوصول العروس مع جهازها إلى بيت العريس وما يصاحب ذلك من أغانٍ رائقةٍ رائعة تنم عن قيم الخير والبركة والشجاعة والكرم والإباء، حيث نجحت المؤلفة نجاحًا باهرًا في جمع نصوص الأغاني وضمنتها هذا الكتاب قبل أن تندثر، وبذلت جهدًا عظيمًا في الاستقصاء حين استقصت الاغاني التي تتردد في الاعراس، وحينما تمكنت من جمع أكثر من 1400 مثل من الأمثال الشعبية المتداولة".
أما الروائية أسماء أبو عياش ابنة رام اللـه، فكتبت في تقدمتها: "هذا العمل هو توثيق أمين لشفاه غنّت وحناجر صدحت بكل حلم أو حب أو حرب .. دبكات ورقصات ومأثورات حكاها الفلسطيني الكنعاني أمس وأرتنا ما سيكون عليه الغد. عمل جدير بالاهتمام وتقديمه لأجيالنا الشابة الذين أخذتهم الحداثة بأدواتها .. اسقيناه من أفواه الجدات والأمهات .. لا نطرحه بديلًا وإنما رديفًا لكل ما هو محدث وجديد مع الاحتفاظ بأصالته وعراقته وصولًا للحاضر".
توزع الكتاب على 3 فصول، الفصل الأول ويضم أغاني الأعراس في الوادي الأخضر، وتستهل الحديث بشرح مسهب عن عادات الخطبة والزواج وعادة البدل والسهرات والتعاليل والحناء وحمام العريس والزفة والنقوط وجلب العروس وهدم العم والخال والسهرة السرية وردة الاجر وأسبوعية العرس وغير ذلك من الطقوس والعادات الاجتماعية السائدة.
أما الفصل الثاني فيشتمل على أغاني المهاهاة/ الزغرودة في الوادي الأخضر، التي تناقلتها الأجيال عبر فترات تاريخية مرت بها بلادنا، ولها مكانة مرموقة في الفرح الفلسطيني كونها تعكس صور الفرح، وهي جزء من أفراحنا، وصمدت متحدية العادات والتقاليد.
أما الفصل الثالث والأخير، فيحتوي على 1455 مثلًا من الأمثال الشعبية في الوادي الأخضر، متعددة الموضوعات والأغراض، وحرصت على الحفاظ على المثل كما هو في النص واللغة نفسها، وأوضحت أنه سادت الأمثال بعض الألفاظ البذيئة المفزعة التي تخدش الحياة وتسبب الارباك، وأنها حاولت استبدال اللفظ المرادف لها بحيث يكون مقبولًا على القارئ.
وحملت الأمثال معاني الهم والحزن والفرح والسخرية وشد العزيمة وجميع مناحي الحياة، بينما اتسمت الأغاني المشمولة في الكتاب بطابع الألم والأسى والشجن وهذا الأمر يعود إلى تاريخنا الحافل بالمآسي والآلام والعذابات اليومية.
ويمكننا القول أن كتاب الأخت الباحثة الفولكلورية لميس جبارين يقدم صورة مشرقة لتراثنا الفلسطيني، ويهدف إلى صيانة التاريخ الشفوي لشعبنا الفلسطيني من محاولات الطمس والتذويب والاندثار، ولتثبيت ملامح الهوية الوطنية والتراثية الفلسطينية، وإنني أثمن عاليًا هذا الجهد الرائع المتميز والمبارك الذي بذلته وقامت به الأستاذة لميس جبارين بجمع هذه الأغاني وتدوينها وتسجيلها وتوثيقها وتقديمها للقارئ العربي الفلسطيني بصورة مبسطة وسلسة جميلة.
إنه باختصار كتاب بحثي تراثي عميق وجاد وهام ومشوق وماتع جدير بالقراءة والاهتمام ، وبدوري أشد على يدي المؤلفة الباحثة لميس جبارين مهنئًا ومباركًا ومثمنًا جهودها الوطنية في حفظ التراث وإحياء الذاكرة الفلسطينية، وأدعو جميع المهتمين بالتراث والوعي الجمعي إلى تكثيف جهودهم والعمل على جمع تراثنا الشعبي الفلسطيني وحمايته، لأن ضياعه واندثاره يعني فقدان الهوية، وفقدان الثقافة الشعبية الفلسطينية المتوارثة، فالحفاظ على تراثنا واجب وطني وثقافي وأخلاقي. وتحية احترام وتقدير لباحثة الفولكلور المربية لميس جبارين، وبانتظار المزيد من المنجزات التاريخية والإصدارات التراثية.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت