مكالمات فائتة

الأسيرة شروق البدن

تتحايل آية على الاحتلال وحواجزه اللعينة، فتهمّ بصناعة هاتفها الخاص. هاتف ليست الغاية منه أبداً قياس سرعة الصوت، بل تجاوز المسافة واحتضان من تحبّ. بقليل من المساعدة، جهّزت الصغيرة وجدّتها كوبين، وثقبتا قعريهما، ووصلتا بينهما بخيط، وشرعتا بالاتصال.
- آية: ألو.. ماما شروق.. اشتقتلك.. كيف حالك؟
- ترد جدّتها: أنا أكتر يا عمري.. عملتلك إسوارة بتاخذ العقل.. من خرز أحمر وأخضر وأبيض وأسود.. متل ألوان العلم، عشان تلبسيها بأول يوم الك في المدرسة.
قد تبدو المكالمة عادية للبعض، لكن أمَرّ ما فيها تقمّص الجدة لابنتها شروق في الجانب الآخر من "الهاتف الذكي" خاصّتهما. هاتف آية المحليّ الصنع، يحقق لها أمانيها ورغبتها في التواصل مع أمها. وسيلة تتحايل بها الطفولة على الاحتلال، طمعاً بغاية تظل منشودة، ريثما تتحقق.. يوما ما. هاتف يستحق براءة اختراع لخصوصيته. قد تبدو المحادثة لعبة، لكنها ليست كذلك. إنها حوارية أحلام وأمانٍ، تستحضر فيها الطفلة آية والدتها: الأسيرة شروق البدن من بلدة تقوع/ بيت لحم، تبلغ من العمر 25 عاماً واعتقالين، تقبع في سجن الدامون في حيفا المحتلة الى أجل غير مسمى.
لسبب ما تجهله شروق نفسها، ومحاميها، وأمها وابنتها آية، وجميع أحبتها؛ صدر بحقها حكماً بالاعتقال الإداري، كلما اقترب تاريخ فَضّه، يتجدد لها بأشهر أخرى، ليستمر دولاب الزمن في الدوران، وتستمر آية في حيلتها، ورشّ السكّر على واقعها، في مكالمات دافئة تخفف عنها يُتماً قسرياً من صنع الاحتلال، من هواتف "فش فيها حرارة.. لا بترنّ ولا بتوط"!
قد تعمّم آية اختراعها "الخنفشاري" على أطفال وطفلات الأسيرات الأخريات، والذين يعيشون واقعاً مماثلا لها. قد يساعد هاتفها المتنقـّل أقراناً لها في تجربة الحرمان التي تعيشها، خاصة في أوضاع اجتياح فيروس كورونا، والذي يستخدمه الاحتلال ذريعة لمعاقبة الأسيرات والتضييق عليهن أكثر. فقد قُلِّصَت الزيارات لمرة واحدة كل شهرين، واقتصرت على قريب/ة من الدرجة الأولى فحسب، كما مُنِع اصطحاب الأطفال، ما حال دون رؤية شروق لابنتها آية، حتى عبر زجاج عازل، وهاتف سلكي، يتحكم السجان بفتحه وإغلاقه!
تحاول الجدة بيع وعود لآية عن غد جميل يعيشونه سوياً، مسكّنة أسئلتها البسيطة جداً والموجعة في ذات الوقت بمورفين الأمل، تراوغُ الصغيرةَ بشراء أحلام تدور حول موعد حرية أمها، وعن الهدايا التي صنعتها لآية في الأسر. لا تنفك الجدة من رشوة آية بألعاب، تبتاعها لها وتزعم أنها من شروق، تقايضها اللعبة بمحاولة امتصاص الخوف الذي سرى جسدها الصغير، عندما اقتحم الجنود منزلهم، وسرقوا أمها من السرير الذي ينامان عليه سوياً.
غربت شمس شروق في أول اعتقال لها، في تموز 2019، ولم تُوجّه لها أية تهمة. هكذا ببساطة، اكتمل نصاب دعوى الملف السري الذي يحيكه الاحتلال بحق الأسرى والأسيرات، سالباً منهم إمكانية الدفاع عن أنفسهم أمام مزاعمه السرية. بدأ اعتقال الأسيرة الإداري بستة شهور، جُدّدت بأربعة أخرى، ومثلها أخيرة. كانت شروق تتحضر بشغف في كل ليلة من ليالي انقضاء الإداري، ليُنّكِّسَ فرحتها إداري جديد، فتعود الى غرفتها خائبة الرجاء، تفرد أعمالها الفنية التي صنعتها لآية، وتندب قلبها الذي صدّق انتهاء صلاحية الإداري اللعين.
أربعون يوماً، هي حصيلة الأيام التي تنفّست فيها شروق الحرية، وعادت شمسها تشرق من جديد. لم تتوقف يوماً عن عناق آية، وتعويضها عن السنة القاحلة التي عاشتها بعيدة عنها، ليتكرر مشهد الاعتقال عن جديد، وتغرب شمسها مرة أخرى، بفاصل قصير جداً، لم يتجاوز الشهرين، ليصدر بحقها إداري جديد.

140557084_129983582288592_2491958610606314907_n

تقول والدتها: "بلّش الإداري بستة شهور، وآخر يوم الها فيه، واحنا عم منحضر لاستقبالها الأسبوع الماضي، تجددلها أربع شهور تانيات. مين بعرف لمتى؟! هذا احتلال بتراهنش عليه". وتكمل: "بين إداري وآخر، تضيع أيام العمر في المعازل، لكن كلّي إيمان بأن "أجمل الأيام تلك التي لم تأتِ بعد".
هل من الطبيعي أن يعيش الفلسطيني رهن مزاجية وتقديرات ضابط منطقة سَكَنه؟ أن ينقطع عن حياته الطبيعية حسب أهواء شخصٍ يتحكم بحياته وحيوات عائلته؟ لا يفرق الاحتلال بين ذكر وأنثى، جميع الفلسطينيين سيان. في سابقة على مستوى العالم، ينجح الاحتلال في تحقيق أول مساواة جندرية باعتقاله الفلسطيني والفلسطينية على حد سواء. فبينما يعيش العالم المتمدّن في فقّاعة الإنسانية، يجترّ قصصاً عن دول "العالم الثالث"، ويمارس ادعاءاته ورواياته بإنقاذهم من براثن العنف والسلطة والحريات المقموعة؛ هل سيحكي أحد ما قصة شروق وآية للعالم؟ عن أم تقبع في السجن بدون تهمة؟ هل ستتحقق نشوة العالم ومؤسساته الحقوقية بقصة ابنة حرمت من حضن أمها؟ هل سيقصّ الإنسان المدعي مناهضة العنصرية والعنف، والغارق برفاهيته وفردانيته قصة الأسيرات الأمهات أمثال شروق: كإسراء أو حلوة أو نسرين أو أماني أو فدوى أو بلسم أو إيناس أو روان أو خالدة أو آية أو إيمان أو ختام؟ وهل سيجرؤ أحد الحديث عن احتجاز أمهات لم تلدن بعد؟ عن أخريات يحلمن بالأمومة يوماً؟!

المصدر: - بقلم هند شريدة - وكالة وطن