الشهيد رائد الكرمي: نافذة صغيرة شاهدة على وداع كبير

بقلم: بثينة حمدان

  • بروفايل بثينة حمدان

ثمانية وعشرون؛ رقمٌ يساوي مجموع حروف اللغة العربية، يختصر كل المعاني والعبارات والعبَرَات، فيه عُمرٌ قصيرٌ زمناً، وطويلٌ فعلاً وبطولةً، عمرٌ تواقٌ للفرح والحياة، زمنُ الوحدة الوطنية، وشعلة البقاء على الثوابت لا تنطفيء! إنه رائد الكرمي البطل والشهيد ابن مدينة طولكرم والذي اغتيل قبل أسبوعين من بلوغه الثامنة والعشرين عاماً في 14 كانون الثاني 2002، رحل في شهر الاحتفال بانطلاقة الثورة الفلسطينية. خرجت المدينة كلها وما حولها مودعةً.. من عاش في عهده له فخر، ومن عاش بعده له فجر شمس الحرية القادم.. تحتفي به حروف اللغة كلها، لكنه اكتفى باتقان حروف الـ"وطن" الثلاثة.. فمن هو رائد الكرمي الانسان؟

عام "الغصن الاخضر"!

ولد رائد في 28 كانون الثاني عام 1974، في مشفى طولكرم الحكومي، الطفل الخامس من أسرة مكونة من عشرة أفراد، صدحت صرخته، كما صدح في العام ذاته صوت الختيار في الأمم المتحدة مخاطباً العالم: "لا تُسقِطوا الغصن الأخضر من يدي". هذا عام مولد رائد الكرمي.

إلتحق في المدرسة العمرية، أحب حصة العلوم، لكنه لم يكمل تعليمه الابتدائي، يترك المدرسة متسللاً إلى سوق الخضار، يعمل في نقل البضاعة، يكسب قوت يومه، فيشتري المصاص الدائري الملون. لاحظت أخته هيفاء صديقته وحافظة أسراره غيابه، وشيئاً فشيئاً عرفت العائلة أنه يشارك برمي الحجارة على جنود الاحتلال، رأته هيفاء أثناء ملاحقة جنود الاحتلال له، نحيف يَفلِتُ من بين أيديهم مثل ريشة، وقبل أن يبلغ الثانية عشر كان قد انخرط بالمقاومة بشكل فاعل بالتزامن مع انطلاق شرارة الانتفاضة الأولى.

الرائد.. رائد!

هناك قرب بيت الجيران، وتحديداً عند خُم الدجاج، يجلس رائد، يقتنص عدة بيضات بيديه الصغيرتين، ويثقبها واحدة واحدة، يفرغ ما في البيضة بمهارة ودقة ويملأها بالتراب، ويعيدها إلى الخم، يأتي الجار لا يبدو على البيض أي تغيير، وحين يقرر طهيها، يكتشف المقلب، تلمع عيون الجار ليس غضباً، بل مبتسماً يفكر ببراعة ودقة آداء ذاك الطفل الذكي. إنه رائد الذي يبحث عن اللعب ويجيد المزاح "الثقيل" كما تصفه أخته هيفاء، ثقيل بحجم الغياب ربما، فيحمل البوظة ويسكبها على ابن اخته!! يهوى نفخ البلالين، والبارع في صيد العصافير، واللعب بالبنانير، وبرتبة رائد أو أعلى حين يتخذ دور الشرطي في لعبة اللص والحرامي.

مشاكسات الأخوة

رائد وهيفاء؛ بينهما نحو العام، "ناقر ونقير"، متشاكسان دوماً، يستمتع رائد يإغاظة أخته واخافتها فيطفيء النور وهو يعلم أنها لا تطيق ذلك، يتلذذ بأكل اللبان الكبير أمامها، وهو يعرف انزعاجها من الصوت، ولا يتردد حين تبدأ هيفاء بتنظيف البيت، من أن يدوس على الأرض الرطبة فتتسخ، تلاحقه بصراخها غاضبة. كان يحب كبدة الدجاج، ويتلذذان معاً بساندويشات اللبنة بالزيتون أمام التلفاز يشاهدان رسوماً متحركة، أو حتى فيلماً عربياً يبث كل يوم جمعة. لا يتذكر رائد وهيفاء والدتهم، فبعد انفصال والديهما، سافرت الأم وعاشت في السعودية، أحسنت زوجة أبيهم معاملتهم، يحبانها لكن يحاولان دوماً تخيل شكل والدتهما بل وحتى ظلَّها.

رائد7


 

الحب  والأم .. فالزواج

"صاحب الرد السريع" سريع أيضاً في اتخاذ قرار الزواج، فبعد أول سفر له عام 1997 ورؤية والدته أخيراً في عَمّان، تعرف على ابنة خالته ليندة شيباني من بلدة عرابة قضاء جنين والتي كانت قد أنهت الثانوية العامة وأعجب بها، أخبر والدته بذلك، ووعدته بالحديث مع خالته وطلب يدها في اليوم التالي، رفض وألح عليها بالاتصال في تلك اللحظة وكانت الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وهكذا تمت الخطوبة، وفي سفرته التالية تزوج وشاهد أمه مرة ثانية؛ مرتان يتيمتان في حياته، في الأولى كان الحب وفي الثانية كان الارتباط أما الوداع لأمه وللحياة فكان من بعيد "خجلاً من دمع أمه" غادرها دون وداع. سرعان ما أصبح مطارداً خاصة بعد تصريحاته ضد شارون والتي نشرت في الصحف الاسرائيلية، بات النوم في بيته مستحيلاً، كما لم تستطع زوجته البقاء في البيت، وقضت معظم وقتها في بيت أهله.

"فلسطينية".. بلا هوية!

من الصعب أن تعد ليندة الأيام أو الساعات التي جمعتها برائد، كما من الصعب أن تنسى أدق التفاصيل القليلة بينهما. عامان من الخطوبة تخللهما لقائين فقط؛ خلال الأربعة أيام الأولى بعد الخطبة أمضيا الوقت يجلسان مع العائلة يشاهدان بعض الأفلام الهندية والكراتيه. أما زيارته التالية فكانت خلال العيد، حينها أهداها سواراً من الذهب، وقاما ببعض الزيارات الاجتماعية. بعد عامين كان العرس، شهدت شوارع عمان زفة العريس رائد منطلقاً من منزل والدته، بقيا معاً لأسبوع ثم عاد هو إلى الضفة، وعادت العروس إلى بيت أهلها تنتظر تصريح دخولها إلى الوطن والذي صدر بعد سبعة شهور. من جديد بدأت التجهيزات للعرس الثاني في الضفة، والتحضير لمسكن الزوجية في الحارة الغربية، مضت فيه عدة شهور ثم عادت إلى عمان منتظرة تصريحاً آخر، وانتقلت لاحقا للعيش في بيت العائلة مع اخوته الصغار وزوجة والده الطيبة.

عادت صيف عام 2000 وانطلقت الانتفاضة الثانية، وبعد عام أنجبت فلسطين، وبقيت تسع سنوات بلا هوية -ورقية- لامرأة تمتليء بالهوية، والحاضر، وصمت الأنثى، امرأة تَنَحَّتْ عن جمالها وتمسكت بجمال الوطن، أخذتها الأحداث، لم تسألها عن رغباتها أو هواجسها. عاشت الانتظار المؤلم لموتٍ مُنتَظَر، ومازالت تحاول الامساك برائحة ذاك الموت، يشحذها ويقويها فتنمو ابنتهما فلسطين أول الفرح كما عُرِفَت و"جميلة" اسمها في الهوية على اسم والدته التي إلتقاها مرتين وحلم بها آلاف المرات، وابنه رائد الصغير في صورة والده، وهذان ما بقي لها من رَجُلِ عمرِها..

محاولة رقم..

اعتادت العائلة أن تمطر رائد بالاتصالات لتطمئن عليه، وما أن تسمع بخبر اي رصاصة طائشة أم صائبة، يسرع افراد العائلة بالحضور، فهاهي أخته عائشة تأتي من برطعة في الداخل المحتل مع خبر اصابته خلال الانتفاضة الأولى عام 1991 بالدمدم واستقرت شظية قرب قلبه، بدا لها بمعنويات مرتفعة رغم الألم.

وبعد خروجه من المشفى ومكوثه يومين في المنزل، حاصر جنود الاحتلال المنزل واعتقلوه منتصف الليل قبل أن يندمل جرحه. ومضى ثلاث سنوات في سجن النقب، ثم خرج وكانت الانتفاضة توقفت وعمل في البناء وكأنه يبدأ حياة جديدة. كان كثير الشجار مع والده الذي أراده الاهتمام بدراسته، لكن السجن وحده من علمه المطالعة بل والحلاقة فصار حلاق السجن.

وفي محاولة أخرى في أيلول 2001 عرف الاحتلال نوع سيارة رائد، فقاموا بقصفها بطائرة الأباتشي، لكنه اكتشف الأمر وقفز من السيارة، فاستشهد صديقه مصطفى عنبص، وأصيب حازم حطاب في أذنه، ورائد في عينه اليسرى، ذهب للعلاج سراً في نابلس رغم الانتفاضة والطرق المغلقة وحواجز الاحتلال، لم يعرف الطبيب أنه رائد، فكان اسمه عبد اللطيف، يناديه الطبيب فلا يرد، فقد نسي اسمه الجديد! ومع الوقت بدأت عينه تضعف وتضمر وصار يرتدي نظارة. وبعد ثلاثة شهور، يبدو أنه حان موعد الاغتيال الأخير.

حلمت أخته عائشة أن رائد استشهد، الكل ينادي عليه فيما اختنق صوتها واختفى، هكذا عاشت العائلة تتعقب رائد الحي نهاراً وتزورهم أحلام موته ليلاً، أحلام طبيعية لعائلة أرادت الحياة لابنها، فيما يريد الاحتلال لنا جميعاً الموت، حدثتني عائشة بعد مرور تسعة عشرة عاماً عن خبر الاغتيال كأنه الآن؛ بعد الكابوس بدا يومها مثقلاً، إلى أن وصلها نبأ استشهاده.

رائد8


الوداع.. "يأتي من النافذة"!

الثائر الذي يهدأ بسرعة، الحنون اللطيف، كانت تلتقيه مرة في الأسبوع، تحوَّل عش الزوجية إلى ملجأ الثوار، تنظف عشهما وتطبخ، وتترك مملكتها لهم بصمت ورضا أحياناً، وفي أحياناً أخرى تدافع عن حقها في حياة طبيعية فتطالبه بذلك، لكنها تعرف أنه ليس رجلاً عادياً، يقول لها دوماً: "انسي".

رائد 2
 

أصبح رائد من بين أكثر الأسماء المطلوبة لدى قوات الاحتلال، اتصل به أصدقائه ليذهب إلى رام الله ورغم صعوبة الحواجز غادر وسرعان ما أعاده القدر إلى مدينته، أراد أن يتمدد لكن صوت الطائرات الحربية بدا  قريباً، هاتف زوجته ممازحاً أن صوت "الزنانة قريب" وضحك. تذكر ليندة أنه قبل يومين من اغتياله تحديداً ذهب للأستوديو والتقط صوراً له مع ابنته، انتشرت لاحقاً على كل المنصات الاعلامية.

عرف رائد بحملها الثاني من والدته التي اتصلت مباركة له، فهكذا تصل أخبار أقرب المقربين للفدائي المطارد، مازالت ليندة تذكر فرحته، ورغبته بمعرفة جنس الجنين، وأخبرها أنه سيحضر لها الـ"حلاوة"، في حملها الأول أيضاً كان مطارداً... تسارعت الأحداث في ذاكرتها إلى أن اتصل بها في العاشرة والنصف صباحاً سألها عن مفتاح البيت كي يصلح إحدى النوافذ وإذا بالخط ينقطع وصوت الانفجار يهز المكان. صرخت ليندة وعاودت الاتصال به وأصدقائه دون جدوى. قالت لها عمتها: رائد استشهد. ذهبت إلى التلفاز فإذا بهم يجوبون به شوارع طولكرم، الجميع في المشفى...

... الاغتيال

تم الاعلان عن وقف اطلاق النار، سافرت هيفاء وزوجها إلى عمان، اتصل بها رائد قائلاً: ارجعوا.. بكفي طولتوا!". وفجأة اغتيل رائد، لم يعرف زوجها مؤيد كيف ينقل لها الخبر، فقال لها أنه مصاب وحالته مستقرة، واستقلا سيارة إلى الجسر عائدين إلى الوطن. أوصى السائق بعدم تشغيل الراديو كي لا تسمع خبر الاغتيال، لكن السائق ودون وعي منه فتح الراديو وكان الخبر الأول: استشهاد رائد الكرمي. صرخت هيفاء واصطدمت فرامل السيارة بالأرض كالصاعقة. لا تعرف كيف وصلت طولكرم وكأن جبهة القتال أسدلت ستارها مؤقتاً، وصلت المشفى؛ رائد في ثلاجة الموتى! مشهد حتمي لا يمكن نكرانه، ولا يمكن لأحد أن ينساه، وجهه ممتليء بالشظايا تسيل منه الدماء، وتسيل من أذنيه، تقول هيفاء: "رائد عاش فقيراً وبسيطاً وشريفاً ومات شريفاً باختصار، كل الذين توافدوا علينا بعد رحيله لا نعرفهم، يتحدثون عن رائد، قائد شعبي واجتماعي، ويحب الأطفال، حنون علينا وعلى أبناءنا"...

أخته عائشة أيضاً وصلت من برطعة، رائد مسجى بجسده الزكي في ثلاجة الموتى، باسمٌ ضحوك، اقتربت منه وقبلته. انفجرت عيونها وهي تروي المشهد لي، وكأن رائد رحل الآن. الموت موجع، والاغتيال موجع، كان يمكن أن يعيش أكثر، لقد أراد أن يعيش أكثر...

في وداع البطل

منذ اعلان اغتياله إلى حين الجنازة في اليوم التالي، مر الوقت ثقيلاً لم تتناول العائلة كسرة خبز، خرجت طولكرم وما حولها بجنازة جماهيرية. وصل الجسد الكرمي منزل العائلة لوداعه الأخير، حضر الطفل والشيخ، وتوالت الزيارات بعدها للمواساة والعزاء، تعرفت العائلة على أصدقاءه أخيراً، كان يداعب طفل هنا ويساعد عجوز هناك. بدأت العائلة تسلم على ماضي رائد في زمن غيابه.

رائد6


"فلسطين" ابنته كانت قد بلغت السبعة شهور، عُرِفَ والدها بـ"أبي فلسطين" لكن ذاكرتها الرضيعة لا تذكر شيئاً عنه، رغم أن والدتها أحضرتها لتودع أباها، لمسته بأناملها، ولعبت بيديه وكأنها تحاول تحريك هذا الجسد النائم.. فلسطين اليوم سنة ثانية جامعة تخصص تصميم جرافيك. أما ابنه رائد فقد ولد بعد الاغتيال بشهور، يشهد اسمه وعمره على سنين وداع رائد الكرمي، كلما كبر عاماً زادت سنوات الفراق والذكرى، لكنهما رغم كل هذا الألم أبناء البطل، رائد اليوم فني تبريد وتكييف.

رائد3


ملابس.. برائحة الحياة

أثناء حديث ليندة ودموعها تتساقط مثل سيل في منحدر لا يتوقف، أخبرتني أنها تحتفظ بملابسه التي كان يرتديها لحظة استشهاده، ثم نهضت. عادت، شاهدتُها تنزل الدرج من الطابق العلوي حاملة حقيبة سفر كبيرة، لم اصدق ما أراه إلا حين فتحت الحقيبة الفارغة إلا من أربعة قطع من الملابس الدامية والتي جفت وتيبست، فيما بقيت مشاعرها والعائلة التي روت لحظات المطاردة والرحيل بدموع لا تجف رغماً عن السنين. وكأن يدها التي مسدت شعره في المشفى ومسحت الدماء عن وجهه لم تجف بعد..

كيف لا تحتفظ بملابسه، وقد اعتادت كثيراً غسلها بيديها قبل أن تمتلك غسالة، كان الزمن يريد أن يعلمها كل تفاصيل هذا الشاب القائد الذي كان يحب التسوق، ويبتاع ملابسه بنفسه، مازالت تذكر أنها يوماً ما كتبت له احتياجات البيت وأحضرها قبل أن يصبح مطارداً، تقول: ما معه ليس له. مات رائد بين حملين وحين استشهد لم يكن في جيبه سوى بضع شواكل! انتهى كل شيء يا ليندة، ولم يُصلِح رائد النافذة ولم يحصل على ابسط حقوقه في أن يعرف جنس الجنين!

.. وبقيت النافذة الصغيرة شاهدة على وداع كبير

 

المصدر: -