- أحمد أبو سليم
تُرى، لو كان بوسع الإنسان أَن يعيد ترتيب حياته مرَّة أُخرى، سواء خارج الزَّمن أَو فيه، من نقطة مرجعيَّة محدَّدة، شكَّلت في لحظة ما منعطفاً حادَّاً غيَّر مسارات الحياة، فما الَّذي كان يمكن أَن نفعله في حيواتنا بالضَّبط؟
لم أَستطع يوماً أَن أَخرج من سطوة سؤال: ماذا لو؟ وكنتُ دائماً أَقف مدافعاً عن ماهيَّة هذا السُّؤال، لا لشيء إلاَّ لإدراكي المسبق بأَنَّ الحيوات في كلِّ لحظة تقف أَمام ملايين الاحتمالات، وأَنَّها تتَّخذ مسارات بعينها كتجلٍّ للوعي، والظُّروف المحيطة، وأَنَّ الإنسان محدود الوعي، والإدراك لا يمكن أَن يقف أَمام تجربته كما وقف الخالق ذات يوم لحظة التَّكوين ليقول: هذا حسنٌ....وبالتَّالي، سيبرز السُّؤال الَّذي لا بدَّ منه أَمام طوفان الوعي: ماذا لو اتَّخذت الحياة في نقطة ما مسارات أُخرى، مختلفة، لتولِّد أَقداراً غير تلك الَّتي نعيشها، ما الَّذي كان سيحدث بالضَّبط؟
ربَّما عليَّ الاعتراف بأَنِّي طوال عمري كنتُ أَقف أَمام نفسي متسائلاً: ماذا لو تعرَّضتُ لتجربة الاعتقال والتَّعذيب، هل سأَصمد؟ هل سأَعترف؟ أَم إنَّني أَمتلك –في اللَّحظة الحالكة- القدرة على الصُّمود مهما كانت النَّتائج؟
ثمَّ عليَّ أَن أَعترف أَيضاً، بأَنَّني ذات يوم حين قابلتُ مصادفة، في أَحد المقاهي، صديقاً ورفيقاً قديماً، كنتُ أَعرف أَنَّه اعترف عن الكثيرين وربَّما عنِّي أَيضاً، تحت الضَّغط والتَّهديد والتَّعذيب، لم أَستطع في قرارة نفسي إلاَّ أَن أَشعر بالاحتقار تجاهه، رغم محاولاتي الحثيثة طرد ذلك الشُّعور.
لا يمكن اعتبار تجربة أُسامة" للسِّجن مذاق آخر" بالمعنى الكليِّ تجربة جديدة، وهو يعترف بذلك في ختام كتابه قائلاً: " آمل أَن أَكون قد وُفِّقتُ في طرح ما نزفه قلمي، وما ذلك إلاَّ تعبير عن تجربة متواضعة، هناك الآلاف أَغنى منها وأَكثر اتِّساعاً....." وقد تُعدُّ تلك الكلمات تواضعاً من الكاتب، إذ إنَّ الأَمر يتعدَّى ذلك بالطَّبع، فالتَّجربة، أَيَّة تجربة صالحة للتَّعميم، هي إضافة ما، بالمعنى الفرديِّ، الَّذي يُضاف إلى المحتوى الجمعيِّ ليزيده غنى واتِّساعاً وشموليَّة، وهي كتجربة أَصيلة قابلة للتَّوالد، أَعني توالد الأَسئلة، وقراءة ما خلف النصِّ، وذلك الأَمر بحاجة إلى تأنٍّ، وقراءة عميقة. ثمَّة محاولات لفلسفة تجربة الاعتقال، وذلك بالضَّبط ما نحن بحاجة إليه.
مع اتِّفاقيَّات "أوسلو" وما تلاها من إحباطات برز السُّؤال المتمحور حول مفهوم التَّضحيات، والشُّهداء، والأَسرى، والمآلات، ومن يدفع الثَّمن، ومن يجني الأَرباح، كلُّ ذلك سيعيدنا إلى المربَّع الأَوَّل الَّذي انطلقنا منه، ماذا لو كان بوسعنا أَن نعيد ترتيب الحياة مرَّة أُخرى، هل كنَّا سنختار الأَقدار ذاتها؟ سيجيب الواقع على ذلك التَّساؤل بنعم، لكنَّ الأَمر رغم ذلك بحاجة إلى الذَّهاب إلى أَبعد من ذلك، فنعم وحدها الَّتي كنَّا نرى الشَّارع يتبنَّاها مرَّة بعد أُخرى لا تكفي، إذ ثمَّة ما هو خلف الجدران، أَعني السُّؤال الأَسود الَّذي يقبع خلف كلِّ الإجابات، ماذا لو كان بوسع البشر أَن يعيدوا ترتيب أَقدارهم ذاتها بمسارات أُخرى أَكثر عمقاً ودراية وتدريباً؟ أَين يكمن الخلل؟ وهل يوجد ثمَّة خلل بالفعل؟ ومن يتحمَّل مسؤوليَّة هذا الخلل إن وجد؟ وما هو الحلُّ؟ وهل نحن نسير بالاتِّجاه الصَّحيح؟ هل يوجد ثمَّة هدف، أم إنَّنا نسير معصوبي الأَعين إلى حيث لا ندري؟ هل ندفع ثمناً باهظاً بوسعنا أَن ندفع-بقليل من الوعي- أَقلَّ منه؟
لقد قرأتُ تجربة " العصافير"* منذ سنوات بعيدة، وأَعاد أُسامة سرد التَّجربة ليخلص إلى أَنَّ أَحكاماً بآلاف السَّنوات على معتقلين فلسطينيِّين قامت بناء على سقوطهم في غرف "العصافير" واعترافهم دون أَن يعوا أَنَّ تلك المعتقلات هي غرف عصافير، محاولاً أَن يحدِّد ملامح تلك الغرف الَّتي ليس بوسع الأَسير مع بداية تجربته أَن يدرك حقيقتها.
سيذهب أُسامة إلى أَبعد من ذلك، حين يروي قصَّة الرَّجل الَّذي أُصيب ابنه الوحيد بالسَّرطان، وحاول جاهداً أَن يحصل على تصريح له للعلاج في مشافي العدوِّ، دون طائل، وظلَّ ينظر إليه وهو يموت أَمامه، ليخضع في نهاية المطاف لمطالب المحقِّق الأَمنيِّ، ويشي بمكان اثنين من المناضلين المطلوبين، ويستشهدا مع مجموعة أُخرى، وثلاثة أَطفال بصاروخ موجَّه، ليجد الرَّجل نفسه أَمام ضميره الَّذي لم يحتمل الصَّدمة، ويخسر ابنه الَّذي يموت من هول الصَّدمة، وما فعله أَبوه، ويخسر الزَّوجة والعائلة الَّتي أَنكرت عليه سقوطه بعيداً عن المبرِّرات والأَسباب.
نحن أَمام حالة إنسانيَّة تحتاج إلى كثير من الأَسئلة، والإجابات، بحاجة إلى عمق الرؤية، وفلسفة الواقع الَّذي يحاول أَن يحوِّله الاحتلال بكلِّ ما أُوتي من قوَّة إلى جحيم متواصل، علينا أَن نعرِّف معنى البطولة بالذَّات، أَعني البطولة الخارقة في ظلِّ كمَّاشة الاحتلال الجهنميَّة الَّتي تطبق على الصَّدر فتقطع الأَنفاس، علينا أَن نعيد تعريف معنى الحياة من جديد، وذلك بحاجة إلى مشروع متكامل يبدأُ من التَّكوين النفسيِّ، والاجتماعيِّ، ولا ينتهي في مكان أَبداً، ما دام ثمَّة احتلال يمارس أَبشع صنوف التَّعذيب، ويحاول أَن يلغي إنسانيَّة الإنسان الفلسطينيِّ ويجعله جزءاً من قطيع العبيد.
لقد قدَّم أُسامة تجربة غنيَّة للأَسير الفلسطينيِّ في سجون الاحتلال، في أَدقِّ تفاصيلها اليوميَّة، بدءاً من لحظة الاعتقال، وصولاً إلى لحظة تنفُّس الحريَّة لمن شاءت الأَقدار أَن تمنحهم ذلك، ومروراً أَيضاً بما يعتمل في نفوس أُولئك المحكومين بسنوات يحتاجون إلى أَلف عمر كي يقضوها في السِّجون، لقد حاول أَن يلج إلى أَدقِّ التَّفاصيل اليوميَّة في حياة الأَسير، الولادة والموت، الفرح والحزن، الاستسلام والصُّمود، الزَّمن، المكان، التحدِّي، الخ... لنجد أَنفسنا أَمام تعريف فريد للأَسرى كجماعة إنسانيَّة منظَّمة لها قوانينها الخاصَّة الَّتي لا بدَّ ستبقى مع الأَسير متأصِّلة في وعيه، وسلوكه، ودوافعه حتَّى بعد خروجه من السِّجن ما يشكِّل حاجزاً حقيقيَّاً بينه وبين المجتمع، خصوصاً أُولئك الَّذين قضوا سنوات طويلة في الاعتقال، وتعوَّدوا، على حدِّ تعبير أُسامة، على التَّنازل عن خصوصيَّاتهم الَّتي لا وجود لها في المعتقل، من أَجل التَّعايش.
ستعني البطولة فيما تعني تلك التَّجارب الَّتي استطاع أَصحابها قهر الزَّمن والسِّجن، والمشروع الصُّهيونيِّ من خلال الصُّمود الفذِّ الَّذي أَدخلهم التَّاريخ من أَوسع أَبوابه. وستعني تجربة منار مع أُسامة، منار الَّتي أَحبَّها وأَحبَّته رغم أَحكامه الطَّويلة، متحدِّية بذلك قوانين الحياة، والمجتمع، وتزوَّجا، رغم أَنف تلك القوانين، والحواجز، ليتغلَّبا بالحبِّ على القاتل، وينتصرا به، أَي بالحبِّ على قسوة الحياة الَّتي سطَّرها الجلاَّد لهما، ويعيدا بذلك ترتيب القدر من جديد، بطريقة لا تخطر على بال بشر.
*** أُسامة الأَشقر: معتقل فلسطيني في سجن الجلبوع الصُّهيوني، حكم بثمانية مؤبَّدات وخمسين عاماً، وهو أحد قادة كتائب شهداء الأَقصى.
* غرف العصافير-غرف العار- غرف تتواجد في المعتقلات ومراكز التَّحقيق، يزرع فيها العدوُّ الصُّهيونيُّ عملاءه لتبدو كالسِّجون الحقيقيَّة، يحاول هؤلاء العملاء انتزاع اعترافات الأَسرى الَّذين يرفضون الاعتراف من خلال ادِّعائهم بأَنَّهم مناضلون.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت