- بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
لم يأت الانسحاب الأمريكي من أفغانستان عن رضى نفسٍ وطيبِ خاطرٍ، ولا هو بسبب يقظةِ ضميرٍ أو إحساسٍ بالندم، أو رغبةً منها في منح الأفغان حقوقهم والسماح لهم بإدارة شؤونهم، بعد اطمئنانهم إلى قوة السلطة التي بنوها، والحكومة التي أنشأوها، والجيش الذي أسسوه ودربوه وأهلوه وسلحوه، أو نزولاً عند القانون الدولي والتزاماً بأنظمة الأمم المتحدة التي تمنع الاحتلال وتحارب العدوان، ولا هو نتيجة تفاهمٍ سريٍ بين الإدارة الأمريكية وحركة طالبان، وإن كان شكله العام يدل على اتفاقٍ بين الطرفين عامٍ ومعلنٍ، بل جاء قرارها بالانسحاب من أفغانستان عنوةً، وإخراج قواتها منها بالقوة، والتخلي عن أحلامها فيها مرغمةً، نتيجةً لحسابات المكسب والخسارة، بعد أن تفاقمت الكلفة، وارتفعت فاتورة البقاء، وكثر عدد قتلاهم، وزادت شكوى مواطنيهم، وتأخر الحسم وتعذر النصر.
غزت الولايات المتحدة الأمريكية أفغانستان عام 2001، وقد عزمت على طول البقاء واستمرار الاحتلال، ووطنت نفسها وبنت تحالفها مع شركائها في أوروبا وكندا وأستراليا، وأقنعتهم بسهولة المهمة، وعدم وجود كلفة، وأغرتهم بالمكاسب والمنافع، وبالفوائد والامتيازات، وباشرت بعد قصفها المهول لكل مكانٍ في أفغانستان، استخدمت فيه أشد ما في ترسانتها العسكرية من أسلحةٍ مدمرة، وقنابل مروعة، بقتل المواطنين الأفغان وتدمير بلادهم، ونهب خيراتهم وثرواتهم، واستخدمتهم لتطويع الجيران وترهيب الآخرين، وتبرير عدوانها وتشريع احتلالها، ومضت على سياستها العدوانية عشرين عاماً متوالية، لم تتعظ خلالها من تجربتي انجلترا والاتحاد السوفيتي، اللذان انسحبا من أفغانستان هرباً، بعد أن دفنوا فيها أحلامهم وأطماعهم.
رفض الأفغان احتلال بلادهم، وحملوا البندقية دفاعاً عنها، وقاتلوا الأمريكيين وحلفاءهم، وقاوموا وجودهم وهاجموا تجمعاتهم، واستهدفوا مصالحهم وفجروا مقراتهم، ولم يجبنوا عن مواجهتهم أو يترددوا في قتالهم، بحجة اختلال موازين القوى، وتفوق الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها عليهم بالسلاح نوعاً وكماً وفتكاً وتدميراً، ورفضوا الاستسلام أمامهم، أو تشريع احتلالهم، أو القبول بالحكومات التي نصبوها، وبالسلطات التي بنوها، بل أصروا على مواصلة قتالهم، وتحدي عدوانهم، والصبر على إيذائهم، ولم تغرهم العروض الأمريكية، ولم يقعوا في شباكهم وحبائلهم، رغم اشتداد محنتهم وتعاظم خسائرهم البشرية.
أدركت الولايات المتحدة الأمريكية، أنه لا قِبَلَ لها بمواجهة شعبٍ يرفضها، وأرضٍ تلفظها، وقوىً تقاومها، وإرادةٍ تتحداها، ومجهولٍ ينتظرها، وتأكد لديها أن هذه المقاومة لا تنكسر، وأن هذا الشعب لا يستسلم، وأن هذه الأرض يوماً لم تخضع، وأنها أبداً لغير أبنائها لا تذعن، وقد زادت خسائرهم وتعاظمت، وكثر قتلاهم واشتكى أهلهم، ولم يعد أمامها من سبيلٍ سوى الرحيل والمغادرة، قبل أن تسوخ أقدامها أكثر، وتتورط في أرضٍ بعيدةٍ عنها أكثر، بما يذكرها بهزيمتها في فيتنام وخسائرها فيها، ورحيلها الذليل منها، وانسحابها المخزي من أرضها، وتخليها المعيب عن أعوانها وعملائها.
هذا هو مصير الولايات المتحدة الأمريكية، المتغطرسة المستكبرة المستعلية، الظالمة القاتلة المعتدية، فقد أفل نجمها وخبا بريقها، وبدأت قوتها تضعف، وامبراطوريتها تتفكك، ولم تعد قادرة على تحقيق أحلامها وتنفيذ رغباتها، وسيأتي اليوم الذي تغيب فيه شمسها عن بلادنا، وترحل جيوشها من أرضنا، فلا شرعية لها، ولا حاجة لنا بها، ولا مصالح لنا تجمعنا معها، فهي تضرنا ولا تنفعنا، وتنهبنا ولا تمنحنا، وتتآمر علينا ولا تخدمنا، ووجودها في بلادنا دمارٌ وخرابٌ، وسياستها ضدنا حربٌ وحصارٌ، جرت علينا الكوارث وتسببت لنا بالويلات، في سوريا والعراق، كما في فلسطين ودعمها للكيان والإرهاب، وفي أفغانستان وقتلها للعباد.
لن يقف الأمر عند انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان فقط، فكما انسحبت منها وهي تجر أذيال الخيبة، وتتعثر في خطاها، وتغطي وجهها مكسوفة، وتبرر لنفسها فعلتها ولشعبها ضعفها، فإنها ستنسحب عما قريبٍ من العراق أيضاً مرغمةً ذليلةً، خاسئةً حسيرةً، وقد قال شعبه كلمته، وطالبها عبر برلمانه بالخروج من بلادهم، وإلا فإن مقاومة الشعب العراقي الجسورة ستخرجهم، وقواه الحرة ستطردهم، وفصائله المسلحة ستجبرهم على سرعة الرحيل وعجلة السلامة، وقد جربت بطشهم وذاقت مرارة فعلهم، وتعرف قدراتهم وتدرك بأسهم، وتعلم أنهم يتحرقون شوقاً لقتالها، ويتمنون نزالها.
أما مصيرهم في شرقي سوريا فلن يكون أحسن حالاً مما وجدوه في أفغانستان، ومما قد يجدونه في العراق، فقد ارتكبوا في سوريا جرائم كبيرة، واحتلوا شطراً من أرضها، وعاثوا فساداً في بلادها، ونهبوا خيراتها، وسرقوا نفطها، وكذبوا إذ ادعوا محاربة داعش ومطاردتها، وهم الذين ساهموا في تأسيسها، وساعدوا في انتشارها، واستخدموا لمآربهم، ووظفوها لمصالحهم، فعليهم أن يتوقعوا عاقبة أمرهم ونتائج عدوانهم، إما رحيلاً مخزياً أو طرداً مكلفاً.
جِبلة الاحتلال واحدة، وطباعهم لا تختلف، فهم يستضعفون الأمم ويستقوون على الشعوب، ويستخدمون الأنظمة، ويسترقون الأجراء والعبيد لخدمتهم والعمل لمصلحتهم، ويبقون ما ضمنوا الحياة وأمنوا الخسارة، ولكنهم في اللحظة التي يشعرون فيها بفداحة الثمن، وارتفاع كلفة الاحتلال، وتفاقم الخسائر، وزيادة عدد القتلى والمصابين، فإنهم حينها يقررون الرحيل، ويعجلون بالانسحاب، وقد يغلفون فضيحتهم ببعض أدوات التجميل ووسائل التخفيف، إلا أن الحقيقة أن هذه الخاتمة هي مآلهم، وهذا الرحيل هو مصيرهم، إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون.
يتبع....
بيروت في 26/8/2021
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت