لا يفارق أبناء الأسيرة السابقة، نسرين أبو كميل، والدتهم في الخيمة التي أقيمت أمام منزلها، جنوبي مدينة غزة لاستقبال المهنئين بالإفراج عنها من السجون الإسرائيلية، بعد 6 سنوات من الاعتقال.
وبين فينة وأخرى، تقترب الأم من أحد أبنائها السبعة، وتطبع قُبلةً طويلة على خده، وتقول بصوتٍ يسمعه الجميع: "بدي (أريد أن) أطفيء نار الشوق لكم يا قلبي".
ورغم اهتمامها الواضح بجميع أبنائها، إلا أن من اللافت اهتمامها بطفلها الصغير "أحمد" الذي فارقته بينما كان يبلغ من العمر 9 أشهر، وعادت إليه، وهو ابن 7 سنوات.
وتحدثت المُحررَّة أبو كميل للمهنئين، عن مشاعرها في الليلة الأولى للقاء أولادها، بعد غيابها الطويل في السجون.
ووصفت الليلة السابقة بالقول: "كل حياتي في كفة، وهاي الليلة في كفة لوحدها، لم أنم وأنا ألفّ على غرفهم كل شوية، أحاول أن أستوعب أنني لا أحلم، وإني أنا فعلاً بين أولادي في بيتي".
ووصلت أبو كميل لغزة، الأربعاء، بعد ثلاثة أيام عصيبة عاشتها هي وعائلتها منذ الإفراج عنها، الأحد، حيث منعتها إسرائيل من المرور إلى القطاع، قبل أن تعود وتسمح لها بالعبور.
وحظيت أبو كميل فور وصولها لمنزلها بمدينة غزة، باستقبال حافل من العائلة وسكان الحي، ومتضامنين آخرين تابعوا تفاصيل قضيتها على مدار الأيام الماضية.
ورصدت عدسات الكاميرات مشاهد مؤثرة للحظة وصول الأسرية المحرَّرة أبو كميل إلى بيتها، واحتضانها لأبنائها بعد 6 سنوات من الغياب واللوعة.
وللأسيرة السابقة، سبعة أبناء، وهم: فِراس (19 عامًا)، فارس (18 عامًا)، أميرة (17 عامًا)، ملَك (15 عامًا)، داليا (13 عامًا)، نادين (9 أعوام)، وأحمد (7 أعوام).
وطوال السنوات الست، لم تسمح إسرائيل لأبنائها بزيارتها.
غياب مؤلم
وتقول أبو كميل لوكالة الأناضول: "لا أصدق حتى هذا الوقت أنني وأخيراً أصبحت بين أبنائي، في كل ثانية أتفقدهم وأطلب أن يكونوا حولي، رغم زحمة الناس".
وتضيف: "غريب جداً على الإنسان أن يُغيّب مرغماً عن أبنائه مثل هذه المدة الطويلة، وهم في أمس الحاجة إليه، كنت في كل يوم داخل السجن أموت ألف مرة، شوقاً لهم، ولوعة".
تلك المشاعر الجياشة خلال السنوات الست داخل السجن، زادت من قلق أبو كميل، وكثيراً ما تخيلت لحظة اللقاء، والصدمة التي يمكن أن تعيشها بسببها كما تقول.
وتتابع: "لعل تأخير وصولي لغزة، لثلاثة أيام من قبل الاحتلال الإسرائيلي والتواصل مع أبنائي (عبر الهاتف)، هوّن من ألم تلك اللحظة ومهّد لها، لتخرج بالصورة التي رآها العالم".
وتوضح أن مشهد أبنائها السبعة مصطفين حولها وقد تغيرت ملامحهم وأشكالهم خلال غيابها "كان مؤلماً جداً بالنسبة لها".
وتوضح قائلة: " فرحة الأم دائماً بالأبناء، يكون عبر متابعتهم وهم يكبرون أمامها، وهي تتابعهم في كافة مراحل تطورهم العمري ونموهم الجسدي".
استغلال لكل دقيقة
وبدأت أبو كميل يومها الأول، في بيتها بعد الغياب، منذ ساعات الفجر الأولى، مستغلةً كل دقيقة بعناية.
نهضت من نومها نشيطة جداً، رغم أنها لم تنم سوى أقل من ساعة واحدة، كما تقول.
وتضيف: "شعرت بأني مولودة من جديدة، رغم التعب والإرهاق، وأردت مراقبة أبنائي منذ ساعات الصباح وانطلاقهم لمدارسهم".
وتابعت: "فذهبت مباشرة نحو غرفهم لإيقاظهم من نومهم وتجهيزهم للانطلاق للمدرسة".
وأردفت ضاحكةً: "تفاجأت أن بعضهم في إجازة بسبب التجهيز للاختبارات والآخرين موعد ذهابهم للمدرسة مساءً".
رغم ذلك، أصرّت الأم على إيقاظ أبنائها لتكسب كل دقيقة في الجلوس معهم.
وتكمل: "تناولنا الفطور باكرا، وكان ذلك أجمل طعام فطور بحياتي كلها، والجميع من حولي، يطلقون ضحكات بعد حزن دام 6 سنوات".
وتضيف: "تفقدت غرف أبنائي بدقة وفراشهم والمطبخ وكل شيء يتعلق بهم، واستمعت لهم كثيراً، وعاهدتهم على أن هذا الغياب لن يتكرر مهما كانت الظروف".
"الأم الصغيرة"
خلال فترة غياب الأم في السجن، اعتنت الطفلة أميرة (17 عاماً) بمختلف شؤون إخوانها بشكل مباشر، مع مساعدة من والدها وآخرين من عائلتها.
وحينما اعتقلت والدتها، كانت أميرة تبلغ من العمر 11 عاما فقط.
وتقول أميرة لوكالة الأناضول: "كان ذلك مرهقاً على فتاة في عمري، مع وجود مولود صغير يحتاج للرضاعة والمتابعة الصحية وغيرها".
لكنها تضيف أنها تمكّنت من تحمّل ذلك، وساعدها والدها وإخوانها الأولاد في بعض المسؤوليات، واستطاعوا برفقة بعضهم المحافظة على ترابطهم الأسري.
وتشير أميرة خلال حديثها إلى أن لحظة لقائها بأمها، كانت "استثنائية إلى حد كبير".
وتضيف: "طالما انتظرتها، لتعوضني عن كل لحظات الحرمان والفقد، التي عشتها".
وتوضح أنها كانت بمثابة "الأم الصغيرة" لإخوانها، خلال فترة سجن والدتها، وذلك ساعد على بناء علاقة مميزة معهم.
أبناء على قدر المسؤولية
باستفاضة، تحدثت الأم نسرين، عن ابنتها الكبرى "أميرة"، وعن نجاحها في العناية بإخوانها.
وتقول في هذا الصدد: "كانت (أميرة) على قدر المسؤولية وحملت الهم مبكراً، واهتمت بشكل بتفصيلي بإخوانها كما أخبرني الجميع، في وقت كانت فيه طفلة، تحتاج للكثير من الرعاية".
وتستطرد: "وعدتها أن أعوضها عن كل الغياب، وأن أكون بجانبها مدى الحياة أماً وصديقة وأختاً وكل شيء".
وتشير إلى أن أصعب لحظاتها في الأسر، كانت في الوقت "الذي تلقت به خبر نجاح ابنها فراس في الثانوية العامة"، حيث لم تتمكن من مشاركته هذه اللحظة، وأن تبارك له وتحتضنه، كما قالت.
لكنها تضيف: "عوضت ذلك بحضن كبير، لحظة وصولي لغزة".
وتكمل متحدثة عن أبنائها "أعجبتني كل تفاصيلهم وجمالهم، واعتنائهم الشديد بصغيرهم أحمد، الذي غبت عنه بينما كان بعمر 9 شهور فقط، واليوم أضحى يركض أمامي بعمر 7 سنوات".
وأبو كميل، من مواليد مدينة حيفا (شمال) وتحمل الهوية الإسرائيلية، لكنها متزوجة من فلسطيني في قطاع غزة، وهي أم لسبعة أبناء.
واعتقلت إسرائيل، أبو كميل، في 18 أكتوبر/أول تشرين 2015، وحُكم عليها بالسجن ست سنوات، بتهمة تقديم "مساعدات للمقاومة في غزة".
وتعتقل إسرائيل في سجونها نحو 4600 أسير فلسطيني، بينهم 35 أسيرة، ونحو 200 طفل.