- بقلم وعدسة: زياد جيوسي
- "الحلقة الثالثة"
هي الخليل مدينة الأسرار والألغاز، واصلت جولتي فيها مع مضيفينا الأصدقاء الدكتور خالد سدر وزوجته السيدة وصال حمدان برفقة مرافقي الرحلة دارا عبد الحليم ووالدتها سوسن نجيب، أفكر في أسرار الخليل وأسرارها والغازها، فهي المدينة الوحيدة في الأراضي المحتلة التي قسمت للعديد من المناطق، ففيها منطقة المسجد الابراهيمي والخاضع للتقاسم الزماني والمكاني بقرار من الاحتلال، فتمنع الصلوات لفترات ويمنع رفع الآذان ليكون حرم المسجد تحت سيطرة المستوطنين وبنادقهم وسفالتهم وعبثهم، ولا يمكن الدخول اليه الا عبر حاجز تفتيش احتلالي وعبر بوابات هي أقرب الى "معاطات" الدجاج وهو الإسم المتداول بين المواطنين لها، وهناك مناطق المحلات التجارية وقسم منها تم الاستيلاء على أسطحتها واستقر بها الحثالات البشرية من المستوطنين، وهناك محلات مغلقة بقرار عسكري للاحتلال ويمنع أصحابها من فتحها ودخولها، هناك مناطق مفتوحة بالسير على الأقدام فقط عبر الحواجز الأحتلالية، وهناك الحواجز العسكرية الثابتة والتي تسيطر على مداخل البلدة القديمة، إضافة للمستوطنات الاسرائيلية التي فرضها الاحتلال بالمصادرة وقوة السلاح، ومناطق يعتبرها الاحتلال حرم للمستوطنات ويمنع الاقتراب منها وهي مساحات إضافية لهذه المستوطنات، إضافة لمناطق مغلقة تماما أمام المشاة وحركة السيارات لأبناء شعبنا ويمنع فتح المحلات فيها أو حتى الوصول اليها كما شارع الشهداء، اضافة لمداخل خارجية وداخلية مغلقة من الاحتلال، فأصبح التجوال في الخليل القديمة لمن لا يعرفها ويأتيها زائرا مغامرة غير مأمونة العواقب بدون مرافقة أحد من سكانها والذين يعرفون هذه التفاصيل بدقة، وأذكر في زيارة لاحقة مع ضيفة على الوطن أننا تهنا عن طريق الخليل ووصلنا الى مسافات بعيدة بين المستوطنات، وحين عدنا بعد معاناة للخليل ووصلناها كان الوقت قد تأخر، وحين دخلت والضيفة عبر الأسواق التي كانت مغلقة للوصول للمسجد الابراهيمي، كنا نشعر أننا نسير في مدينة أشباح فلم نجد محلا مفتوحا ولا مواطنا في الشارع، وبالتالي كنا معرضين لأي حدث من حثالات المستوطنين وجنود الاحتلال، ولكن الله سلمنا بعد ان بلغ الخوف ما بلغه مع الضيفة ووصلنا المسجد وتجولنا بالحرم بسرعة وغادرنا إلى رام الله، موثقا بعدستي هذه المشاهد الليلية.
في تجوالنا زرنا متحف البلدة القديمة الواقع في حارة الدارية قرب خان الخليل، وهذا المتحف كان في الأصل حماما تركيا عرف بإسم حمام ابراهيم الخليل، وهو من المباني الوقفية ومبني على نظام العقود المتصالبة منذ فترات تعود للبناء العثماني، وجرى تحويله إلى متحف بقرار من الرئيس ياسر عرفات رحمه الله، وتجولنا في عبق التاريخ وتراثه مع المحافظة على تقسيماته الداخلية بحيث أصبح بقدمه وتفصيله يليق بمتحف أثري، فما زالت القبة في أعلاه والمبنية على طوق من الحجارة والنوافذ فيها وفتحات دائرية في القبة نفسها قائمة والتي كانت مهمتها تجديد الهواء وخروج البخار من الحمام، ومن ضمن الآثار والتراثيات المعروضة بالمتحف عدد كبير من الجرار الفخارية التي تعود لعصور مختلفة، والتوابيت الحجرية التي تعود للعصر الروماني، وكذلك رؤوس التيجان الكورنثية الرومانية المتميزة بنقوشها، ولوحات فنية ولوحات لمخططات مختلفة، مرورا بالعديد من الأدوات التراثية التي لم يعد لها وجود الآن مثل آلة "جلخ المقصات والسكاكين" والتي أذكرها طفلا، وقطع صغيرة كثيرة منها العملات القديمة ومكاحل النساء والفوانيس الصغيرة، وأدوات كانت تستخدم للحفر وللأرض، واللوحات والصور التي تروي بعض من حكايات التراث، وبعض الملبوسات الشعبية والخفاف وفراء الخرفان وغيرها الكثير، وصناديق العرائس التراثية والمطعمة بالصدف والتي كانت تخرج معها حين زواجها وتستخدم بدل الخزائن الآن، والعديد من التراثيات التي استخدمها الأجداد كالهاون الحجري وفخاريات مختلفة الاستخدام ومغارف كبيرة لتحريك الطعام في القدور الضخمة، اضافة لمطاحن القهوة اليدوية والفوانيس، ورافقنا بالجولة مشرف المتحف الأخ شفيق عمرو والذي استقبلنا بكل ترحاب ليشرح لنا عن هذه الآثار والأدوات التراثية، واضاف لعبق التاريخ اضافة أخرى طبيعة المكان الذي يعود بناءه لفترة قديمة، فخرجت من المتحف وقد حلقت روحي في ماضينا الجميل عبر العصور، ومن الجدير بالذكر انه قد تم افتتاح متحف جديد في الأيام الماضية في مبنى متميز شاهدته ولفت نظري في بداية جولتنا معروف بإسم مبنى فلسطين سيكون له وللخليل زيارة أخرى.
من حارة إلى حارة ومن زقاق إلى زقاق كنت أجول الخليل القديمة، وحيثما سرت كنت أشعر بعظمة الأجداد الذين حفروا الصخر بأظافرهم، وتجولت في عدة حارات منها حارة القزازين وهي الحارة الوحيدة التي حملت اسم صناعة الزجاج الذي تشتهر به الخليل عبر الزمان، وحارة الدارية نسبة لمن سكنها من نسل الصحابي تميم الداري، وحارة السواكنة التي ينسب اسمها الى السيدة الصالحة سكينة ابنة الشيخ سليمان الحسيني، وحارة العقابة أو العقبة وسميت بذلك كونها مرتفعة قليلا عما حولها، وأسم العقبة منتشر في الكثير من البلدات الفلسطينية مثل القدس ونابلس وغيرها، وحتى أن بلدتي "جيوس" وهي بلدة صغيرة يوجد بها منطقتين تحملان الاسم احداهما العقبة والثانية عقبة الجيوسي، كما تجولت في حارات المدرسة والحوشية والمحتسبية غرب الحرم وحملت الاسم من وظيفة المحتسب وحارة القلعة نسبة للقلعة الصليبية بجوار الحرم الابراهيمي، وزرت العديد من المساجد القديمة ولعل أهمها مسجد ابن عثمان، ويعتبر ثاني أقدم مسجد بالمدينة بعد الحرم الابراهيمي ويقع في اول حارة العقابة، بالقرب من سوق الاسكافية في طريق الحرم الابراهيمي، وقد تجولت كثيرا وأنا أتأمل البيوتات التراثية التي تختلف بمستواها في البناء والشكل حسب الوضع الاجتماعي لمن بنوها.
وقبل أن انهي الجولة الأولى كنا نزور الأخ عماد عبد الله حمدان مدير عام لجنة اعمار الخليل، وهو شاب في غاية اللطف استقبلنا بكل ترحاب، وحدثنا عن الدور الذي لا يختلف عليه أحد عن الدور الرائع والمهم لهذه المؤسسة الرائدة في اعمار البلدة القديمة رغم كل المعيقات ودور الاحتلال ومحاولاته المستمرة وقف نشاط المؤسسة، فهذه المؤسسة شُكلت بمرسوم رئاسي من الرئيس الشهيد ياسر عرفات في شهر آب 1996من شخصيات المحافظة ومؤسساتها لهدف تحسين الظروف المعيشية للسكان من خلال ترميم البيوت والمحافظة عليها وربطها بالبلدة الحديثة، واعادة احياء البلدة القديمة من خلال الترميم واعادة تأهيل البيوت المهجورة وتأهيل البنية التحتية ودعم السكان للصمود في مواجهة الاحتلال وغول الاستيطان وإعادة الاعمار، بالتعاون مع مؤسسة رواق للمعمار الشعبي، حيث عملت اللجنة على توفير الماء والسكن والتأمين الصحي والاعفاءات الجامعية وشجعت المواطنين للعودة حيث بلغ عدد المواطنين الذين عادوا للبلدة القديمة حتى عام 2012م ما يزيد عن ستة الآف مواطن كما جرى حتى ذلك التاريخ ترميم 1000 مبنى، وقد وضعت اللجنة نصب عينيها ثلاثة مهام رئيسة وهي:1- الحفاظ على التراث الثقافي و إعادة إحياء البلدة القديمة عبر ترميم مبانيها وإعادة استخدام المهجور منها وتأهيل بنيتها التحتية، والحفاظ على التراث الثقافي وعناصر الوحدة التكوينية والنسيج العمراني. 2- تحسين الظروف المعيشية للسكان من خلال ترميم البيوت السكنية، وربط البلدة القديمة بالجديدة، وتقديم الخدمات المختلفة التي تساهم في تنمية شروط السكن والعمل.3- تنشيط الحركة التجارية والاقتصادية، وزيادة الحركة السياحية المحلية والوافدة. وتوفير مشاريع حيوية لتشغيل السكان للأيدي العاملة من أجل مكافحة البطالة والفقر.
وقد تحدث لنا الأخ عماد عن بعض من نشاطات المؤسسة وخاصة في مجال اعادة الترميم والمحافظة على روح البلدة التراثية، فقامت بإزالة الشوائب التي لا تتناسب مع طبيعة البلدة وتراثها للمحافظة على النمط والتراث المعماري، فتم ازالة واجهات اسمنتية شوهت مشهد البلدة التراثي، وجرى ازالة الكثير من الاضافات التي لا تناسب طبيعة الأبنية الحجرية في بعض الأحياء وفي الحرم الابراهيمي، وهذا الدور للمؤسسة اعاد عدد السكان الى ما يصل الخمسة ألاف نسمة حتى عام 2012م، بينما كان العدد قد انخفض الى 400 مواطن عام 1996، كما حدثني عن 101 حاجز نصفها أبراج مراقبة للاحتلال في البلدة القديمة وعن 512 محل تجاري مغلق بقرارات عسكرية من الاحتلال و 1141 محلا اغلقت بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية حتى 2012 م، إضافة للنشاطات الثقافية والتراثية وغيرها بالتعاون مع كل المؤسسات، وحقيقة كان شرح الأخ عماد موسوعيا وأجاب على كل تساؤلاتي، وزودني ببعض الكتب والمصادر التي تفيدني وتعزز المعلومات التي لها علاقة بالبلدة القديمة وتاريخ الخليل، وحدثني لأودعه مغادرا لاستكمال زيارتي للخليل، فأكملنا التجوال في أسواق البلدة ودروبها لننهي الجولة بالغداء في بيت الدكتور خالد سدر، حيث وجبة "القدرة" التي تشتهر بها الخليل، وحيث تعرفت ومرافقيني على الشاب محمد والشابة ترتيل أبناء الدكتور، وقضينا معهم وقتا طيبا وشكرناهم حسن الضيافة وكرمها والجهد الذي بذلوها معنا الدكتور خالد وزوجته وصال، قبل أن نغادر سوسن ودارا وأنا إلى رام الله حيث نزلت أنا وأكملوا هم طريقهم إلى عنبتا درة الربى الكرمية.
ولاحقا لهذه الجولة قمت بجولتين أخريين في الخليل واستكملت زيارة بعض الأمكنة التاريخية التي ستكون مجال الحديث في الحلقة القادمة، ومن أهمها الحرم الابراهيمي والرامة وغيرها من المناطق والأبنية التي سيكون لها حديث قادم، فبلدة بمثل تاريخ وقدم وتراث الخليل لا يكفيها عشرات المقالات للتعريف عنها.
"جيوس 4/11/2021"
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت