- د. سنية الحسيني
صادف قبل أيام ذكرى مرور ٥٩ عاماً على تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، والتي اتخذ قرار إنشائها في الجامعة العربية مطلع عام ١٩٦٤. وعُقد أول اجتماع للمنظمة في مدينة القدس، في الثامن والعشرين من شهر أيار من ذلك العام، حيث أعلن الحاضرون عن الهدف من قيامها، والذي تحدد بتحرير فلسطين. في ذات اليوم، انتُخب أحمد الشقيري أول رئيس لها، وتأسست هيئاتها المختلفة، كما وُضع نظامها الأساس والميثاق الوطني. رسخت منظمة التحرير ملامح الهوية الفلسطينية كما وضعت إطاراً مؤسساتياً سياسياً وقانونياً لشعب يقبع نصفه تحت الاحتلال والنصف الآخر مشرد لاجئ يعيش غريباً مبعداً عن وطنه. ورغم ذلك واجهت المنظمة تحديات عديدة، وقفت في طريق تحقيق الهدف الرئيس الذي جاءت من أجله خلال العقود الستة الماضية.
جاء تأسيس المنظمة في ظل معطيات معقدة، جعلت من وجودها في ذلك الوقت ضرورة لحماية تماسك وصمود الشعب الفلسطيني ومقاومته، سواء داخل فلسطين أو خارجها. كما تعتبر المنظمة أساس النظام السياسي الفلسطيني ولا تزال نقطة ارتكازه، خصوصاً في ظل كل ما تعرض له الفلسطينيون خلال العصر الحديث من تطورات سياسية معقدة. خضع الفلسطينيون لحكم الدولة العثمانية لقرون، ثم رزحوا تحت سلطة الاحتلال البريطاني مباشرة بعد هزيمة العثمانيين، في ظل وعد بلفور الذي وعدت خلاله حكومة بريطانيا اليهود بوطن لهم في فلسطين. جاء ذلك في ظل مؤامرة دولية حيكت ضد الفلسطينيين، اتضحت أول خطواتها بمخرجات مؤتمر سايكس بيكو، التي وضعت حدوداً سياسية لفلسطين تسلخها عن امتدادها الجغرافي الطبيعي مع بلاد الشام. وترسخت تلك المؤامرة بوضع بريطانيا كسلطة انتدابية على فلسطين، في اطار وعدها لليهود، لوضع المؤامرة قيد التنفيذ. انتهت تلك التطورات بهزيمة عام ١٩٤٨، وتشريد وتهجير أكثر من نصف الشعب الفلسطيني، في ظل دعم غربي، تجسد في إصدار الأمم المتحدة لقرار التقسيم عام ١٩٤٧، والذي مهد الطريق لاعتداءات العصابات اليهودية في العام التالي، وبداية عهد النكبة الفلسطينية، واستكمل بعد ذلك باعتراف المنظمة الدولية باسرائيل كدولة في العام ١٩٤٩، لتكتمل فصول المؤامرة ضد الفلسطينيين. جاء ذلك مصحوباً بضعف عربي عام وتشتت قدرات الفلسطينيين القيادية وتبعثر طاقاتهم.
خرج الفلسطينيون من نكبة العام ١٩٤٨ في أضعف حالاتهم، فما بين إحباط الهزيمة وتشرد مئات الآلاف منهم وعجز قيادتهم، فاقم الضعف العربي الذي خيم في حينه من مأساتهم، فوقفت القضية الفلسطينية عند مفترق طريق خطير. جاءت المنظمة بعد عقد ونصف تقريباً من النكبة ممثلاً شرعياً للشعب الفلسطيني في جميع مناطق تواجده، فأعادت ورسخت مفهوم الهوية الفلسطينية، واعتبرت الموجّه الرسمي للسياسة الفلسطينية، وأصبح ميثاقها ونظامها الاساس يقوم بوظيفة الدستور، وجسد عملياً واقع النظام السياسي الفلسطيني، رغم عدم سيطرة الفلسطينيين على أرضهم. فاعترف جميع أعضاء الجامعة العربية بالمنظمة كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني عام ١٩٧٤، كما أصبحت المنظمة عضواً فيها، وانضمت إلى عضوية منظمة المؤتمر الإسلامي، وأصبحت عضواً مراقباً في الأمم المتحدة. وعام ١٩٧٦ صدر بيان من قبل فلسطيني أراض العام ١٩٤٨ يؤكد على أن المنظمة تمثلهم أيضاً. ولم تغير نشأة السلطة الوطنية الفلسطينية بعد توقيع اتفاق أوسلو عام ١٩٩٣ من واقع النظام السياسي الفلسطيني، الذي يقوم على أساس وجود منظمة التحرير، فجاءت السلطة بتكليف من المنظمة نفسها وتحت إشرافها، وضمن مهام إدارية محددة ومؤقتة، داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهو الأمر الذي لا يزال قائماً.
ورغم هذه الأهمية وهذا الدور الجوهري لمنظمة التحرير كقيادة لكامل الشعب الفلسطيني، وكنظام سياسي يحفظ الكيانية الفلسطينية، في ظل مؤامرات الاحتلال، واجهت المنظمة العديد من التحديات المتتابعة، منذ نشأتها، التي تنوعت ما بين الدولي والإقليمي العربي والداخلي الفلسطيني، وأثرت على قراراتها ونشاطها ودورها. اصطدمت منظمة التحرير منذ ظهورها بخلافات الدول العربية، في ظل حاجة المنظمة وقيادتها للغطاء السياسي والمكاني والمالي، ولتلك الدول، خصوصاً المحيطة بفلسطين، وتمتلك الحدود معها. وجاءت المبادرة بإنشاء المنظمة من قبل مصر، والتي دعمت أحمد الشقيري ليكون رئيس لجنتها التنفيذية، بينما وقفت كل من المملكة العربية وسورية ضد ظهورها، وكانت تدعم في حينه القيادة الفلسطينية التقليدية التي كانت لاتزال موجودة في ذلك الوقت، والتي تمثلت بالهيئة العربية والعليا برئاسة أمين الحسيني، متهمة الشقيري بقربة من مصر. وكانت السعودية وسورية على خلاف مع مصر، انعكس بمواقفها من ظهور المنظمة بمبادرة مصرية. ورفض الأردن فكرة وجود المنظمة كممثل عن الشعب الفلسطيني، بما يتعارض مع مصالحها في الضفة الغربية، كما تعامل لبنان بحذر مع ظهورها، ورفض تواجد قوات المنظمة فوق أراضيها، في ظل حساسية واقع التمثيل الفلسطيني لآلاف اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. أدى ذلك إلى صعوبات مالية واجهتها المنظمة منذ البداية، حيث تباطأت الدول العربية في الوفاء بالتزاماتها المالية، التي أقرت للمنظمة في مؤتمر القمة العربية الثاني في العام ١٩٦٤. بعد هزيمة عام ١٩٦٧، وصدور قرار ٢٤٢، ورفض قيادة منظمة التحرير ممثلة بالشقيري هذا القرار، الذي وافقت عليه غالبية الدول العربية في حينه، بما فيها مصر، انقلب العرب على الشقيري، ووضعوا قيادة جديدة للمنظمة بعد ذلك. كما أنه وبعد توقيع مصر لاتفاق كامب ديفيد نهاية عقد السبعينيات، بدأت الضغوط توجه للمنظمة لاتخاذ منحى سلمي لحل القضية الفلسطينية، وساهمت مصر بلعب ذلك الدور، الذي سيخرجها تلقائياً من المقاطعة العربية. وتعمق ذلك الاتجاه في ظل ضغوط الولايات المتحدة على المنظمة والمساومة على شرعيتها، وترسخ ذلك التوجه في أعقاب انتهاء الحرب الباردة لصالحها، فبات التوجه السلمي للمنظمة المخرج الواقعي الوحيد لجميع أزماتها.
على الصعيد الداخلي الفلسطيني، وواجهت المنظمة العديد من العوامل التي ساهمت في إضعافها، سواء على المستوى العسكري بعد خروجها من لبنان أو على المستوى المالي بعد حرب الخليج أو على المستوى السياسي بعد صعود مكانة حركة حماس في الأراضي المحتلة خلال سنوات انتفاضة الحجارة، ورفضها الانضواء تحت مظلة المنظمة وإعلانها عن ميثاق بديل عن ميثاق المنظمة، إلا أن أزمة المنظمة الكبرى جاءت بعد قيام السلطة الوطنية. ليس هناك أدنى شك في سيادة وسمو المنظمة قانونياً على السلطة، فقد تشكلت السلطة الفلسطينية عام ١٩٩٣، بعد رسائل الاعتراف المتبادلة بين منظمة التحرير وإسرائيل، اعترفت خلالها المنظمة بحق إسرائيل في الوجود، بينما اعترفت الثانية بالمنظمة ممثلاً عن الشعب الفلسطيني. ونص إعلان المبادئ، الذي وقعته المنظمة على إنشاء حكومة ذاتية انتقالية، لفترة لا تتجاوز الخمس سنوات، كما تشبثت قيادة المنظمة باستخدام مصطلح السلطة الوطنية في اتفاق غزة ـ أريحا تيمناً بما جاء في برنامج المنظمة للنقاط العشر. وجاء إقرار المنظمة بإقامة السلطة بعد مصادقة المجلس المركزي للمنظمة في تونس في الشهر التالي لإعلان المبادئ، حيث فوّض المجلس المركزي اللجنة التنفيذية بتشكيل السلطة، بناء على قرار المجلس الوطني، على أن تكون المنظمة مرجعيتها، وهو ما أعاد القانون الأساس للسلطة التأكيد عليه. ونصت المادة الثانية من الاتفاقية المرحلية والتي وقعت في واشنطن عام ١٩٩٥ على التزام المنظمة بإجراء انتخابات سياسية عامة لمجلس السلطة (المجلس التشريعي) ولرئيسها، مع التأكيد على أنها ليست بديلاً عن المنظمة. واعتبر قانون الانتخابات الفلسطيني الصادر نهاية ذلك العام أن أعضاء المجلس هم أيضاً أعضاء في المجلس الوطني، على اعتبار أن المجلس التشريعي يعمل ضمن إطار المجلس الوطني. كما أن صلاحيات المجلس التشريعي محددة ضمن فترة انتقالية وضمن نطاق الضفة الغربية وقطاع غزة، في حين احتفظ المجلس الوطني بصفته التشريعية والتمثيلية للشعب الفلسطيني كله.
ليس هناك شك في حالة التهميش التي لحقت بدور المنظمة لصالح السلطة، فاشترطت المنظمة عندما أقرت إقامة السلطة أن يكون رئيس السلطة هو نفسه رئيس اللجنة التنفيذية، وأن تتشكل السلطة من عدد من أعضائها، وهو الأمر الذي تسبب في خلق ازدواجية وخلط كبير بين دور المؤسستين، لغير صالح المنظمة، فأصبحت السلطة بكوادرها ومؤسساتها صاحبة القرار السياسي الفلسطيني الحقيقي، في حين حيدت المنظمة وباتت مجرد هيكل صوري. وكشف نجاح حركة حماس في الانتخابات التشريعية عام ٢٠٠٦ عن عمق أزمة النظام السياسي الفلسطيني، ضمن المعطيات التي ترسخت بعد أوسلو.
ليس هناك حل للتخلص من المأزق الفلسطيني الحالي وحالة التقييد التي تعاني منها السلطة في ظل استمرار الاحتلال للضفة الغربية وقطاع غزة وحالة الانقسام الحاصل بين الشطرين، إلا باستعادة المنظمة لدورها التمثيلي والسياسي والقانوني واستكمال إصلاح مؤسساتها. فليس من المنطقي أو المقبول أن ينتهي دور المنظمة قبل أن تحقق الهدف الرئيس الذي جاءت من آجله. إن الصيغة التكاملية وتقسيم العمل بين صلاحيات المنظمة السيادية والقيادية وصلاحيات السلطة الإدارية، بما في ذلك إعادة تحديد وظيفتها ومهامها، هي طريق مهم للحفاظ على المشروع الوطني الفلسطيني.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت