ماذا تبقى لكم ؟! ...

  •     معتصم حمادة       
  •     عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

 

يبدو أن بعض من هم في السلطة الفلسطينية «بجناحيها» في الضفة الفلسطينية، وقطاع غزة، لم يقتنع حتى الآن، أن القضية الوطنية تمر في منعطف استراتيجي، يتجاوز هذه المرة، كل التأكيدات الإنشائية اللفظية، ويرسم آثاره العملية على الأرض، ويبني معادلات جديدة في الصراع، بدأت علاماتها تبدو واضحة لمن يريد أن يرى، ومفهومة لمن يريد أن يقرأ، وذات تداعيات ودلالات، ولها مآلاتها المنتظرة لمن يريد حقاً أن يرسم سياسة تستجيب لطبيعة التحولات العاصفة، في هذا المنعطف.

• فنحن أمام حكومة لم يسبق أن شهدت إسرائيل مثيلاً لها، جمعت تحت سقفها القوى اليمينية والدينية الأكثر تشدداً وتزمتاً، لتستجيب لبرنامج بات يعتبر إسرائيل دولة تمتد من البحر إلى النهر، وهي ملك للشعب اليهودي حصراً، اتخذت سلسلة من الإجراءات والقوانين لتعديل عمليات الاستيطان، وحصرها بيد وزير المال، وهو نفسه الوزير المقيم في وزارة الأمن، وحده يخطط ويرسم، ويقرر ويمول بناء المستوطنات، بين يديه 150 مستوطنة يقيم فيها حوالي نصف مليون مستوطن، وأمامه 146 بؤرة استيطانية، يعمل على منحها الصفة «القانونية»، وتحويلها إلى مستوطنات «شرعية»، لتضم هي الأخرى حوالي نصف مليون مستوطن جديد، فضلاً عن إعادة النظر بقوانين التمليك اليهودي للجليل، وتمكين اليهود من الحصول على أراضي إضافية لتهويد الجليل، بما يحول الفلسطينيين العرب فيه إلى أقلية دون أن ننسى ما يدور في الجولان من أعمال لتوسيع الاستيطان، وفي النقب لإغراقه باليهود، أي بعبارة مختصرة، نحن أمام مشروع لضم الأراضي الفلسطينية المحتلة، والجولان، واستكمال تهويد الجليل، والقدس والنقب، لإقامة إسرائيل الكبرى، وسيكون هذا، بالضرورة، على حساب الحد الأدنى للحقوق الوطنية الفلسطينية (تقرير المصير والدولة المستقلة، وعودة اللاجئين)، وعلى حساب الحقوق القومية وحقوق المواطنة للفلسطينيين العرب في إسرائيل، وكذلك على حساب الهوية الوطنية للجولان العربي السوري، بإغراقه باليهود المستوطنين، وتحويل السوريين العرب فيه إلى أقلية.

لقد كان نتنياهو، رئيس حكومة «برنامج الضم» شديد الفصاحة، حين أكد أمام لجنة الشؤون الخارجية والأمن في الكنيست الإسرائيلي، أن حكومته سوف تجتث فكرة الدولة الفلسطينية، من الوعي الفلسطيني، وسوف تقمعها، بل سوف نطحنها، وأن أقصى ما يمكن أن يسمح به عبر حكومته هو إقامة سلطة، تدير شؤون الفلسطينيين في مدن الضفة، توفر لهم الخدمات، بديلاً عن الاحتلال، وتشكل ضمانة أمنية لإسرائيل، تحميها من «الإرهاب» الفلسطيني، مؤكداً أن مثل هذه السلطة (على شاكلة القائمة حالياً) هي مصلحة لإسرائيل يجب الحفاظ عليها، ودعمها وإسنادها، ومساعدتها مالياً.

• ومن جهة أخرى، نحن أمام سلطة حكم إداري ذاتي، تعاني الإفلاس السياسي استراتيجياً وتكتيكياً، تتحرك في الفراغ، في محاولة لزرع الوهم (المفضوح أصلاً) أنها على الطريق السليم.

فقد وعدت بإقامة سلطة فلسطينية، تتحول بعد 5 سنوات إلى دولة فلسطينية مستقلة، كاملة السيادة على حدود 4 حزيران (يونيو) 67 وعاصمتها القدس، نبذت «العنف» واعترفت بالقرار 242 أساساً للحل، بديلاً لرزمة القرارات الدولية التي اعترفت بالحقوق الوطنية الفلسطينية وتكفلها، بما فيها حق تقرير المصير والعودة، وإقامة الدولة المستقلة، كذلك اعترفت بإسرائيل، وبحقها في الوجود، وتعهدت بتوفير الحماية لها من «الإرهاب» الفلسطيني، وأسست لاقتصاد تابع للاقتصاد الإسرائيلي، حول المناطق الفلسطينية المحتلة إلى مستعمرة اقتصادية، ومحمية أمنية لإسرائيل، وبدأت تزرع مفاهيم ومعايير وقيم النفعية الذاتية، والشطارة والفهلوة، وتبرير الفساد المالي والإداري والاجتماعي، وبناء المصالح الذاتية، وتغليبها على المصالح الوطنية العامة، والتطلع نحو امتلاك العقارات، والشقق الفخمة والسيارات الفارهة، والرتب العليا ذات الرنين في الأذن، والزبائنية، والتزلم، كل ذلك على حساب ما بنته الحركة الوطنية الفلسطينية في محطاتها المختلفة، في الكفاح المسلح، والانتفاضة، والنضال السياسي، من معايير وقيم ومفاهيم تنتمي في مجموعها إلى التراث النضالي للشعب الفلسطيني، في المخيمات وتحت الاحتلال، وبما هي تراث نضالي عالمي وأممي، بنته الشعوب بتضحياتها الغالية.

وقد نجحت السلطة في رام الله في إنجاز مهماتها الأمنية، بالتنسيق والتعاون مع سلطات الاحتلال، فاستحقت الثناء على دورها من قبل الولايات المتحدة، والغرب الأوروبي، فضلاً عن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، بحيث باتت إسرائيل تعترف على لسان كبار مسؤوليها عن الحاجة إلى مثل هذه السلطة، لتدير شؤون الفلسطينيين، نيابة عن الاحتلال، وتضبط الأمن في مناطقها، أيضاً نيابة عن الاحتلال، مقابل مكافآت، نجحت في بناء منظومة أمنية، تديرها شرائح اجتماعية، انفصلت في مسارها، عن المسار الوطني العام، وبات لها فلسفتها الخاصة التي تبرر لها تعاونها الأمني مع الاحتلال.

كما نجحت السلطة في بناء اقتصاد مرتبط ارتباطاً وثيقاً، مع الاقتصاد الإسرائيلي، ابتداءً من اعتماد العملة الإسرائيلية عملة «وطنية»، مروراً بالموافقة على قانون جمركي، يأخذ في الاعتبار الاقتصاد الإسرائيلي، على حساب مصلحة المستهلك الفلسطيني، وصولاً إلى تسليم معابر مناطق السلطة، ما أسهم في ولادة شرائح اجتماعية كومبرادورية، بنت مصالحها الطبقية بالتعاون مع الطبقة الحاكمة، على حساب مصلحة الاقتصاد الوطني الفلسطيني، فنشأت فئات اجتماعية غنية جداً، مقابل تدهور في أوضاع الطبقات الدنيا، أما الطبقة الوسطى بشرائحها المختلفة، فقد احتلت موقعاً مركباً، تتطلع نحو مواقع اجتماعية متقدمة في سلم الوظيفة والموقع الاجتماعي، وبالمقابل نحو دور وطني في مواجهة الاحتلال، ومعارضة مفهوم السلطة الفلسطينية المبني على الالتزام بقيود أوسلو واستحقاقاته.

وفي الوقت الذي أخذ فيه الخط البياني للمشروع الاستيطاني الإسرائيلي يتجه صعوداً، كان الخط البياني لأداء السلطة الفلسطينية ينحدر نزولاً، إلى أن وصلت بها الأوضاع إلى مستوى شديد التدني، فقدت فيه القدرة على اجتراح أي مشروع «وطني» للخلاص.

راهنت على «اتفاق أوسلو» وفشلت.

راهنت على «خطة خارطة الطريق» وفشلت أيضاً.

راهنت على «مؤتمر أنابوليس» فباءت بالفشل الذريع.

راهنت على «حل الدولتين» الذي ما زال يجرجر أذياله منذ الولاية الأولى للرئيس الأميركي بوش الابن (2002)، وما زال مجرد وعد من الرئيس الحالي جو بايدن، لكن وكما يؤكد بايدن نفسه «على المدى الطويل».

راهنت على «الحل الاقتصادي»، معطوفاً على «أفق سياسي»، فلم تحصد «الحل الاقتصادي»، وفشلت في الإمساك بـ«الأفق السياسي».

وأخيراً وليس آخراً، راهنت على التفاهمات الأمنية لمسار «العقبة – شرم الشيخ»، باعتباره المدخل الضروري للتمهيد لـ«حل الدولتين» (طبقاً لادعاءات رئيس الوفد الفلسطيني إلى اجتماعات هذا المسار)، فحصد الفلسطينيون المجازر والمحارق.

وما زالت السلطة تعاند في الاعتراف بالواقع الحالي، الذي يقول بوضوح إن الأولوية لدى التحالف الأميركي – الإسرائيلي، هو توسيع «تحالف أبراهام»، وضم معظم الدول العربية إليه، وفي موازاة ذلك العمل على تحويل «منتدى النقب» إلى إطار إقليمي، لدمج إسرائيل فيه، وبحيث «يتكامل» تشكيله، وهو الأمر الذي من شأنه أن يمهد لحل الصراع العربي – الإسرائيلي، وفي سياقه حل المسألة الفلسطينية، بما لا يعكر صفو «التكامل الإقليمي»، ولا يعكر صفو العلاقات العربية – الإسرائيلية، وبحيث لا يتجاوز سقف الحل سلطة إدارة الحكم الإداري الذاتي، تحت الحماية الأمنية الإسرائيلية، وبالارتباط باقتصادها الذي هو جزء (آنذاك) من الاقتصاد الإقليمي، يوفر لها من المساعدات والمغانم ما يساهم في بناء شرائح اجتماعية متعددة المستويات، باتت مصالحها جزءاً من استقرار أوضاع الإقليم.

ما يزيد في تعميق المأزق السياسي الذي قادت إليه السلطة الفلسطينية شعبها، إنها تمارس الغش السياسي، ولا تصارح الشعب بالحقيقة.

فهي، ولتغطي عوراتها وهي كثيرة، تصر على الادعاء أنها دولة تحت الاحتلال، وتطلق نكتة سخيفة (ومرّة في الوقت نفسه) تقول فيها أنها أعدت كل الإدارات والمؤسسات لإقامة الدولة، ولم يبق سوى أمر واحد، هو «رحيل الاحتلال»، وكأن «رحيل الاحتلال» مجرد جزئية من جزيئات قيام الدولة، وليس هو القضية، وليس هو الموضوع، الذي لا موضوع سواه.

وأحياناً تتنازل، وتدعي أنها سلطة وظيفتها بناء أسس قيام الدولة، ثم تعيدنا إلى النكتة السخيفة إياها، بالقول إن الدولة قامت حقاً، لكن تحت الاحتلال.

ومما يعمق المأزق أيضاً أن السلطة لا تكاشف الشعب الفلسطيني بما ارتكبته من أخطاء قاتلة، بل تصرّ على تبني خطاب ذي سقف سياسي عال في الحديث عن الأهداف الوطنية، لكنها تختصر استراتيجيتها في تحقيق هذه الأهداف، بإصدار نداءات التذلل والاستجداء للولايات المتحدة، ومجلس الأمن، والمجتمع الدولي، في الوقت الذي تعفي فيه نفسها من أية واجبات ميدانية سياسية وأمنية، وغيرها للدفاع عن الشعب الفلسطيني ومصالحه، حريصة على عدم تجاوز الخطوط الحمر التي تعتقد أنها بتجاوزها تكون قد غامرت بمصالحها الفئوية والاجتماعية، التي راكمتها عبر سنوات تطبيقات أوسلو واستحقاقاته.

وقد بدأ لافتاً، بشكل بارز في الفترة الأخيرة، تعمد السلطة تغييب نفسها عن ساحة الأحداث الكبرى، كغيابها الملحوظ في «معركة القدس – سيف القدس»، والأعمال العدوانية على قطاع غزة، وآخرها معركة «ثأر الأحرار»، أو تلك المجازر والمحارق التي شهدتها الضفة، كما في نابلس وجنين وحوارة وترمسعيا وغيرها، وتتفادى في وسائل إعلامها أن تشير إلى أعمال المقاومة الشعبية في الضفة، حتى لا تُتهم بتأييد الإرهاب والتشجيع عليه، ما يعني أنها فقدت تواصلها مع الشارع، وفقدت اتصالها بنبضه السياسي، وباتت سلطة عاجزة وفاشلة، لا تملك رؤية أو مشروعاً سياسياً، استراتيجيتها الانتظار، والرهان على الوعود الأميركية، وإدارة الأمور على قاعدة «سيري فعين الله ترعاك»، في ظل أوضاع اقتصادية تزداد تفاقماً، وأوضاع أمنية تزداد خطورة، وفي ظل سؤال مطروح على بساط البحث، إلى أين تقودنا هذه السلطة، وماذا تبقى لها؟! ...  

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت