عقدت مبادرة مهد المشرق حوارية بعنوان: "مصيرنا تحت الإبادة والهيمنة الاستعمارية – الهوية العربية الفلسطينية المسيحية نموذجاً"، استضافت فيها الأرشمندريت الدكتور أغابيوس أبو سعدى، حاوره خلالها الدكتور إيهاب بسيسو.
قدّمت الحوارية رؤية وطنية جامعة حول دور المجتمع الفلسطيني في ظل الإبادة المتواصلة، شكّلت بمثابة صرخة في وجه الجريمة المستمرة التي يقترفها الاحتلال الصهيوني، بمشاركة أمريكية، بحق جميع مكونات الشعب الفلسطيني "بِرأتيه"، الإسلامية والمسيحية على حد سواء، كما وصفها الأب أبو سعدى. وسلطت الحوارية الضوء على استهداف المكوّن المسيحي، حيث استشهد 3% من أبناء الطائفة المسيحية الذين قتلوا أثناء احتمائهم داخل الكنائس في القطاع، بعد أن ظنّوا أنها ملاذاً آمناً.
وجاءت الحوارية في سياق تقاطعها مع أحد أهداف المبادرة، والمتمثل في فضح سردية "المسيحية المتصهينة" التي يسعى الرئيس الأمريكي وإدارته إلى تسويقها، عبر التلاعب بنصوص الإنجيل لتبرير الإبادة. وأكدت المبادرة أن المسيحية انبثقت إلى العالم من فلسطين، وهي بذلك تعزز الانتماء العروبي لمسيحيي المشرق. وقد فنّد الأب أبو سعدى القراءات المشوّهة للعهد القديم، والتي ظهرت في خطابات الاحتلال، لا سيما في خطاب نتنياهو الذي استند إلى نصوص مثل "العماليق" وغيرها. وشدد على أن محاولات محو التاريخ بدأت قبل نكبة عام 1948، وترافقت مع سياسات "فرّق تسد" التي انتهجها الاستعمار البريطاني، مستهدفة الهوية الوطنية الجامعة، وتصاعدت لاحقًا من خلال جماعات مثل "شبيبة التلال"، وصولًا إلى مراحل الاستيطان المكثف بعد النكسة والانتفاضتين، وحتى واقعنا الراهن.
وأجمع الحضور على أن غزة باتت تلخّص الوجع الفلسطيني، حيث تشهد إبادة بشرية وثقافية وروحية شاملة. وعبّر الأب أبو سعدى عن علاقته الشخصية العميقة بغزة، التي استلهم منها اسمه الروحي "أغابيوس"، تيمنًا بالقديس الغزي أغابيوس. واستُذكرت في الحوارية أيضًا سيرة الشهيد خضر ترزي، أحد أوائل شهداء الانتفاضة الأولى عام 1988، والذي استشهد في غزة بعد أن تم ربطه على مقدمة جيب عسكري، فيما خرجت جنازته من الكنيسة ومن المسجد العمري في مشهدٍ يعكس وحدة النسيج الفلسطيني. كما تناولت الجلسة محاولات الاحتلال في تغييب الوجود المسيحي في القطاع، رغم غِناه التاريخي، حيث يعدّ القديس هيلاريون – أحد أعلام الحركة الدينية – من أبناء غزة، إضافة إلى محاولات اقتطاعه غزة كأحد المفاصل الجغرافية المهمة في خارطة الحج المسيحي وامتدادها الروحي والتاريخي، حيث أن العائلة المقدسة عبرت من غزة في طريقها إلى سيناء.
ودعا الأب أبو سعدى إلى تعزيز الوحدة الوطنية، مستشهدًا بقول السيد المسيح: "البيت الذي ينقسم على ذاته يخرب"، مناديًا بضرورة توحيد الصف الداخلي، مستعيداً في هذا السياق مبادرة الأب هيلاريون كابوتشي – حارس القدس – السوري الأصل، الذي بعث برسالة من منفاه إلى كل من الرئيس محمود عباس وحركة حماس، مناشداً فيها الطرفين إلى توحيد البيت الداخلي ورص الصف الفلسطيني.
وضرب أبو سعدى عددًا من الأمثلة عن رموز مسيحية عربية ساهمت في الدفاع عن القضية، من أبرزهم المطران اللبناني غريغوريوس حجّار (1901-1940)، مطران الروم الكاثوليك في عكا، الذي عُرف بمواقفه الوطنية ودفاعه عن فلسطين، حتى لقّبه أهلها ب"مطران العرب" تقديرًا لدوره وكفاحه في سبيل الحق الفلسطيني.
كما وجّه الأب أبو سعدى نداءً إلى وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، داعيًا إلى تطوير منهاج التاريخ بما يعكس الوجود المسيحي العربي في فلسطين والمنطقة، مشيراً إلى القصور في تناول هذا المكوّن العضوي والشريك الأصيل، الذي شارك في صياغة الحضارة والثقافة العربية والإسلامية، ورفدها بعطاءاته. كما شدد على ضرورة تصحيح المفاهيم المغلوطة، ومنها الربط الخاطئ بين مسيحيي المشرق والحملات الصليبية، في حين أن الصليبيين ارتكبوا مجازر ضد المسيحيين المحليين أنفسهم.
وفي ختام اللقاء، دعا الأب أبو سعدى إلى أن يكون الصوت الوطني المسيحي صوتًا نبويًا، ينقل رسالة ما يجري إلى العالم، ويكون حاملًا لرسالة الأمل والرجاء في ظل الظلام القائم.
ويذكر أنَّ مبادرة مهد المشرق حديثة النشأة، لكن ثمارها ونشاطاتها كثيرة في المجتمع الفلسطينيّ، وتمتدُّ خارجًا لمناصرة وتدويل قضيّة الأسرى بالتّحديد وزيادة الوعي حولها، وذلك عبر إطلاق نشرات توعويّة عن الأسرى بثلاث لغات العربيّة والإنجليزيّة والإيطاليّة، وكذلك مشاركتها مواد مرئيّة وفيديوهات لعائلات الأسرى الفلسطينيّين، ناهيك عن مشاركتها في مؤتمرات محلّيّة وإقليميّة لدحض مزاعم المسيحيّة الصهيونيّة. إضافةً إلى ذلك، فقد عقدَتْ مهد المشرق حواريتين سابقتين، تمحورت الأولى حول “صمود الشّباب في ظلّ التّهجير والتّطهير العرقيّ” مع القسّ الدّكتور متري الراهب، وأخرى بعنوان “طلعنا على الضو- شهادات من الأسر” مع القسّ الدّكتور منذر اسحق.
والجدير ذكره، أنَّ مهد المشرق تعرّف عن نفسها بأنّها مبادرة عربيّة فلسطينيّة مسيحيّة، تؤكِّد على الهويّة العربيّة الفلسطينيّة الوطنيّة والنضاليّة لمسيحييّ المشرق، كمكوّنٍ عضويٍّ متجذّرٍ و أصيلٍ من نسيج وهويّة العالم العربيّ، وعمقه الحضاريّ المسيحيّ – الإسلاميّ.
تؤمن مهد المشرق بالدّور الطليعيّ والتاريخيّ للفلسطينيّين المسيحيّين، وبروزهم على نحوٍ فاعلٍ في مسيرة النّضال التحرريّ الفلسطينيّ الممتدّة لأكثر من مئة عام. كما تؤمن مهد المشرق في حقّ الشّعب الفلسطينيّ في تقرير مصيره وانتزاع حرّيّته من الاحتلال، وفي المسؤوليّة الملقاة على عاتقهم (المسيحيّين الأصليّين) بالمشاركة الفاعلة المقترنة بالفكر النيّر والمُتجدِّد في قضايا مجتمعهم الإنسانيّة المختلفة وفي صنع الحاضر والمستقبل.
كما تتمحور أهدافها بالمساهمة في تعميق وعي مجتمعيّ مشترك حول الدّور التاريخيّ والمعاصر للفلسطينيّين المسيحيّين ضمن حركة التحرّر الوطنيّة الفلسطينيّة، واستنهاض الشّباب الفلسطينيّ المسيحيّ وتحفيزه للقيام بدوره ومسؤوليّاته لتلبية حاجات المجتمع الفلسطينيّ المتنوّعة، كذلك مساهمتها بفضح سرديّة المسيحيّة المتصهينة من خلال إعلاء الصّوت المسيحيّ الأصلاني المناهض للاستعمار الاحتلالي و المناصر للقضيّة الفلسطينيّة.