شاهدت فيلم (ذبذبات من غزة) للمخرجة الفلسطينية د. رحاب نزال، تفاجأت ان الأطفال الصُمّ في قطاع غزة والذين عاشت معهم المخرجة، وراقبت سلوكهم خلال الحروب المتتالية والتي شنتها إسرائيل على القطاع، قد اصبحوا يسمعون هول الانفجارات والارتجاجات ودوي الدمار، يسمعون بأجسادهم المرتعشة، وبأبصارهم المندهشة، يسمعون الصرخات والاستغاثات، يسمعون بملامحهم المرتعبة، باهتزازات اعضاءهم، يسمعون بما تقوله وجوه الناس المفزوعين الهاربين من القصف والموت، يسمعون آخر كلمات نطقت بها الرؤوس المقطوعة، واخر عاصفة للأشلاء البشرية المتطايرة، يسمعون ما فوق الأرض وما تحت الأرض في هذا الجحيم الصهيوني الأمريكي، وما يقوله الشهداء في المقابر المزدحمة.
الصُمّ في غزة هم الوحيدون الذين سمعوا صوت الموت وهو يحصد الأرواح على مدار الساعة، سمعوا صوت الأطفال والنساء الذين يتساقطون افرادا وجماعات، المسح الشامل للمنازل والعائلات، الحرائق في الخيام، والمدارس والمستشفيات، صوت القنابل التي ايقظت فيهم كل الحواس المعطلة، الصوت في الاذنين والعقل والدماغ، الصوت تحت اقدامهم وفوقهم ومن حولهم، صوت الجوع والامراض والعواطف الخرساء.
الصُمّ صاروا يسمعون بينما العالم أصيب بالطرش، تجمّد المجتمع الدولي وماتت فيه كل المشاعر، لا قوانين ولا عدالة، لا زفير ولا شهيق ولا حماية، لا دواء ولا هواء ولا ماء، لا أحد يسمع ولا احد يرى، كأنه لا يحدث شيئا في غزة، العين ترى وعين العالم أصابها العمى.
كل عضو في أجساد الصُمّ تحرك واشتكى، كل نبض وعصب، بينما لم تتداعى سائر أعضاء المجتمع الدولي ومؤسسات حقوق الإنسان وحراس الكرامة الإنسانية بالسهر والحمّى.
صوت الزنانة اخترق الجسد، طنين وهدير انفجارات ليل نهار، صفير ودخان ولحم مشوي، لا نوم ولا يقظة، لم توفر لهم إعاقة الصمّ الهدوء والسكينة، رسموا صوت الموت على دفاترهم المدرسية واجسادهم، كوابيس تنطق وتتكلم، وعندما وجدوا كل شيء مغلق، الضمير الإنساني مغلق شاهدتهم يذهبون الى البحر ليوقظوا الأمواج بلغة الإشارات، البحر يحمل الدماء والجثث والذبذبات، بحر غزة ليس شيطان أخرس.
في حرب الإبادة الدموية والبشعة على غزة، هناك من يسمعون ولا يتكلمون، وهناك من يتكلمون ولا يسمعون، وهناك من غطى عينيه وانضمّ الى صفوف الميتين.
في حرب الإبادة على غزة، رأيت الصُمّ والبكم وما اكثرهم حولنا ومعنا وفينا، عاجزين لا مبالين، متكلسين, يشهرون لغة مضادة للروح الفلسطينية في معركة دفع الفلسطيني الى الغياب، يتكلمون كلاما في الكلام، اغلقوا اذانهم بالطين والتراب، كأنهم ماتوا إنسانيا و وطنيا بطريقة لا مجد فيها ولا فجيعة، يا ليتهم ظلوا صامتين.
أطفال غزة المذبوحين والمتفحمين يقولون: نحن نسمع بالقلب لا بالفلسفة والهرطقة، ومن أصيب بعاهة السكوت فقد تلاشى في الخراب، ومن رضي ان يبتلع لسانه وينتظر ان ترحل غزة من الوجود فقد مات في الموت ساكتا وجرفه النسيان، الصوت حركة ومقاومة وحياة، الصوت فكر وثقافة وفضاء في الفضاء، فما بال الكثيرين الذين تخلوا عن انسانيتهم، وأغلقوا آذانهم وأفواههم وتحولوا الى آلة صمّاء.
لا تقولوا: لم نسمع، لم ترتجف أجسامنا تحت وابل القذائف والصواريخ والحرائق والرصاص، لا تقولوا لم نهان ونعذب وتنتزع انسانيتنا من لحمنا وعظمنا في السجون والمعسكرات، لا تقولوا لم تغتصب نساؤنا وشبابنا في مراكز التحقيق وتلقى جثثهم في الثلاجات او الحاويات، ولا تقولوا لم نسمع صوت المداهمات والاعتقالات وتجريف البيوت والمخيمات، عربدات المستوطنين والاعتداءات، لا تقولوا لم ترتج عواطفنا امام مشاهد المجازر وتناثر الأجساد، الجرائم الصهيونية تدق سمعكم واحلامكم وكينونتكم الى درجة ان الموت والقتل امام بيوتكم في رفح ورام الله، هل فاض الموت حتى تسكت فيكم ينابيع الحياة؟ هل صار الوطن من البحر الى البحر وطن للموت والشهداء؟
الأطفال الصمّ في غزة يسمعون الآن، ولكن انسان الإبادة الجديد، الذي صهرته النيران، وهندسته هذه الحرب وجدانيا ونفسيا وجسديا وسياسيا، قد غرق من الوريد الى الوريد في البلادة، واذا لم يكن الانسان حرا بسمعه ولسانه لن يكون حرا في مواقفه، انها إبادة سمعية وبصرية وجسدية، إبادة وطن وهوية وإرادة، إبادة ايمانية وروحية، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك اضعف الايمان، فيا أيها الناس: اسمعوا وتكلموا وتحركوا، اخرجوا من الجنازات التي لم تعد للأموات فقط وانما للأحياء، فالإبادة الذاتية والتدمير الروحي وهو اخطر اشكال الإبادة، ونحن شعب لا نريد سوى الحياة والحرية، وللحرية عين واذن ولسان وبندقية، وما لا يثيرنا يقتلنا ويسلب وروحنا من المكان.
الأطفال الصُمّ في غزة يسمعون، الحرب والصدمات تشفي النفوس، والاذن ترى قبل العين أحيانا، انهم يسمعون اكثر مما نسمع، ويرون اكثر مما نرى، يرون الدبابات والطائرات والجرافات الصهيونية، لا تستهدف فقط غزة، انما تسعى لتدمير روايتنا وحكايتنا، افران الغاز النازية أصبحت ذريعة لحرق وتجريف حياتنا واسكات صوتنا من الأرض والتاريخ والذاكرة.
لن نصدق ان الضحية تتحول الى جلاد، التاريخ يكذب، وما يسمى المأساة الإسرائيلية ليس حلها بارتكاب مأساة فلسطينية وكارثة إنسانية لا مثيل لها في التاريخ المعاصر، التاريخ يكذب، وغزة هي الشاهد والشاهدة والصادقة والحقيقة والشهيدة، ليس من اختصاصنا نحن الفلسطينيين ان نوفر حلا لعقدة امن الغزاة ومجرمي الحرب الإسرائيليين، بلادنا هي بلادنا، فليبحثوا عن بلادهم ان كان لهم بلادا بعيدا عن حياتنا العامرة.
الأطفال الصُمّ في غزة يسمعون والعالم أطرش، فيا أيها الذين تسمعون لا تفصلوا الصوت عن الضوء، لا تفصلوا جسد غزة عن القدس والضفة المحتلة، لا تتركوا حيفا وحدها، تحدثوا عن الهوية الوطنية الجامعة، لا تحولوا الانقسام إلى هوية كما قال الشهيد الأسير وليد دقة، لا تفصلوا اللحم عن العظم والصورة عن الواقع، ارجوكم لا تتكلموا بلغة منهارة، ولا تكتبوا بإصابع ميتة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت