تكشف ورقة حقائق تحليلية عن “الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في قطاع غزة وانعكاسها على الواقع الديموغرافي” خريطةً متحركة لِما يعيشه السكان منذ أواخر 2023: اقتصادٌ مُستنزَف، نسيجٌ اجتماعي يرزح تحت أعباء النزوح وفقدان الدخل، ومشهدٌ ثقافي وتعليمي يتعرّض لخسائر معمّقة. هذه التحوّلات لا تقف عند حدود المعيشة اليومية؛ بل تدفع إلى تغييرات ملموسة في أنماط الزواج والطلاق والإنجاب وتركيب الأسر، وفق مضامين الورقة التي تقدّمها جهة بحثية محلية مدعومة بإحالات رسمية وأممية.
على الجبهة الاقتصادية، ترتفع الأكلاف بوتيرةٍ لا تُحتمل. ترصد الورقة قفزات واسعة في أسعار سلال أساسية: أدوية ومواد ضرورية ارتفعت بنحو 51%، تلتها مجموعات غذائية وخدمية زادت ما بين 53 و64%، مع قفزات بلغت 60% لبعض البنود، و100% في مدخلات محددة، وارتفاع لافت في كلفة المياه وصل إلى نحو 87%. هذه الزيادات تضرب مباشرةً القدرة الشرائية، وتُحوِّل الإنفاق اليومي إلى معادلة عجز مزمن لدى أغلب الأسر.
وتزيد الصورة قتامةً مع تضخم تكاليف تجهيزات ومعيشة أساسية—منها بنود صحية—بنسب قفزت حتى 300%، بالتوازي مع استثنائية المشهد المعيشي الذي يدفع كثيرين إلى خيارات استهلاكية أدنى كمًّا ونوعًا، وهو ما يُوسّع تلقائيًا دائرة الاعتماد على المساعدات. وتوضح المقارنات الزمنية المضمَّنة أنّ فجوة الأسعار القائمة اليوم لا تشبه “الطبيعي” السابق للحرب، ما يعمّق التآكل السريع في مدخرات الأسر ويدفعها إلى تقليص إنفاق التعليم والثقافة والترفيه.
اجتماعيًا، يتقدّم النزوح القسري إلى صدارة المشهد. تسجّل الورقة مئات آلاف النازحين داخليًا، مع الإشارة إلى كتل كبيرة تقيم في مساكن مؤقتة أو لدى أسر مضيفة، وهو ما يراكم اكتظاظًا شديدًا ويضغط على سلاسل الإمداد والخدمات العامة، ويعقّد الوصول إلى الماء والصرف الصحي والكهرباء. هذه التحوّلات ليست لوجستية فقط؛ بل تعيد توزيع أدوار الإعالة والرعاية داخل الأسرة الواحدة، وتفرض ترتيبات سكنٍ مشتركة بين الأقارب وتمزيقًا جغرافيًا للعائلة الواحدة تبعًا لمسارات النزوح.
وتتسع حلقات الهشاشة مع تعطل القنوات الرسمية للخدمات وتراجع النفاذ إلى الموارد الأساسية. تشير الإحالات المدرجة في الورقة—ومنها أوراق حقوقية محلية—إلى صعوبات متزايدة في الوصول إلى المياه أثناء الحرب، مع توثيق حالات نقص حاد وتفاوت كبير بين المناطق، ما ينعكس على الصحة العامة والوقاية من الأمراض. وفي الخلفية، تنشر “أوتشا” تحديثات دورية عن الحالة الإنسانية تؤكد مسارات التدهور الممتد وقيود العمل الإغاثي.
ثقافيًا وتعليميًا، يدفع رأس المال المعرفي ثمنًا باهظًا. توثّق إحالة “يونسكو” في الورقة تقييم أضرار واسعة طالت مواقع ثقافية ودينية وبنى تعليمية، مع آثار مباشرة على سير العملية التعليمية وانقطاع مئات آلاف الطلبة عن مساراتهم الطبيعية. خسارة هذه البنية ليست ظرفية؛ فهي تصنع فجوة مهارية ستظهر لاحقًا في سوق العمل وتكوين الأسر وتطلعات الشباب للهجرة.
ومن الاقتصاد والمجتمع والثقافة، ينتقل التأثير إلى البنية الديموغرافية. تُظهر بيانات مُحالة إلى الجهاز المركزي للإحصاء وتوثيقات محلية أن منحنى الزواج هبط بصورة حادّة: تراجعٌ يُقدّر بنحو 39% في 2025 مقارنةً بفترات ما قبل الحرب، بينما ارتفعت حالات الطلاق بنحو 16.7% خلال 2024 مقارنةً بـ2023، في انعكاس مباشر لفقدان الأمن الاقتصادي والسكني واليقين بالمستقبل. وفي السياق ذاته، تسجّل قراءات خصوبةٍ طويلة الأجل تراجعًا من 6.4 طفل للمرأة في 2010 إلى 5.3 في 2023، مع إشارات إلى ضغوط إضافية قد تُرجئ الإنجاب لدى الأسر الشابة تحت وقع الحرب والنزوح.
هذه المؤشرات الديموغرافية ليست أرقامًا معزولة. فهي تنعكس فورًا على تركيب الأسر وديناميات الإعالة: ارتفاع الأسر المعالة من امرأة أو كبير سن بعد فقد المعيل، تزايد أعباء الرعاية داخل البيت الواحد، وتحوّل قرار تكوين أسرة جديدة إلى معادلة شديدة التعقيد مرتبطة بالدخل والسكن والقدرة على الوصول للخدمات. وتلفت الورقة إلى أن الضغط الممتد على البنى الصحية والتعليمية والخدمية يخلق “مرونة سلبية” في المجتمع: قابلية للتكيّف مع مستويات أدنى من الرفاه، لكنها تُراكم خسائر رأس المال البشري وتهدد الاستقرار الاجتماعي على المدى المتوسط.
إلى جانب ما سبق، تُظهر الإحالات الواردة تدهورًا متزامنًا في الخدمات الأساسية وتحديات الإحالة الطبية والعلاج، مع تسجيل إصابات وإعاقات واسعة وارتفاع عبء الفقد والفقدان. وتُرجّح الورقة أن استمرار القيود على الحركة والتمويل والنقد يُبقي الاقتصاد رهينة “إدارة أزمات” لا “سياسات تعافٍ”، الأمر الذي يكرّس اعتمادًا أوسع على المساعدات ويُضعف قدرة السوق على خلق فرص عمل تعوّض الفاقد. ومن شأن هذه الحلقة أن تُبقي المنحنى الديموغرافي مائلًا نحو مزيد من انخفاض الزواج والإنجاب ومزيد من هشاشة الأسرة.
لا تقتصر كلفة الحرب في غزة على خسائر يومية مباشرة؛ بل تمتد إلى إعادة صياغة البنية السكانية عبر قنوات الاقتصاد والمجتمع والثقافة والتعليم. الأسعار التي تقفز، والوظائف التي تتلاشى، والنزوح الذي لا ينتهي، والمدارس والمكتبات التي تُطفأ أنوارها—كلها خطوط تغذّي رسمًا جديدًا للهرم السكاني: زواج أقل، طلاق أكثر، خصوبة مُرجأة، وأسرٌ أثقل أعباءً. وتُظهر الورقة أن كسر هذه الحلقة يتطلب رزمةً متزامنة: إدخال السيولة وتثبيت سلاسل الإمداد، حماية اجتماعية واسعة للأسر الأكثر هشاشة، واعتماد خطط تعافٍ للتعليم والثقافة تعيد استثمار رأس المال البشري وتمنع تحول “جيل الحرب” إلى جيل فرصٍ ضائعة. من دون ذلك، سيظل الغزّيون يدفعون ثمنًا مركّبًا يتجاوز الدخل إلى مستقبل التركيبة السكانية نفسها.