«قيراطان» نموذج تطوعي يعمل على مدار الساعة داخل المستشفيات

الغسل والتكفين في غزة بين ضغط الحرب وشح الموارد

شهداء غزة.jpeg

على بوابة مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح، ينتظم مشهدٌ صار يوميًّا في زمنٍ استثنائي: رجالٌ ونساءٌ يحملون نعوشًا بيضاء، وأيدٍ حانيةٌ تُطهِّر وتُكفِّن وتُعطِّر، وقلوبٌ تُواجِه ما لا يُطاق. هؤلاء متطوّعون ومتطوّعات يعملون بلا أجرٍ مالي؛ لا نصيب لهم سوى بعض المساعدات العينية التي تُهدِيها جمعيات خيرية لعائلاتهم، ومع ذلك يواصلون، لأنهم يرون في عملهم حفظًا لكرامة الراحلين وبلسمًا لصدور الأحياء.

من الخيمة إلى غرفة الغُسل

في العقد الثالث من عمرها، ووسط خيمةٍ مهترئة لا تقي حرَّ الصيف ولا برد الشتاء، تقيم أم محمود بعد نزوحها من شمال غزة. لم تكن يومًا تتخيّل أن تُلامس جثمانًا، «كنتُ أهاب حتى الاقتراب من موتانا، ولو كانوا من أهلي»، تقول. لكن الحياة أقوى من الهواجس: «منذ نزُوحي أقمت قرب مستشفى الأقصى. بعد تعرّفي إلى أهل المنطقة، عرض عليّ العاملون في غرفة الغُسل أن أشارك مع نساءٍ أخريات. تردّدتُ، ثم اعتبرتُه عملَ خيرٍ فوافقت رغم خوفي ومن دون أي مقابل مادي».

تشرح أم محمود أن ساعات التطوّع تتبدّل تبعًا لكثافة الحالات: «أحيانًا يأخذ العمل معظم يومي حين تتكاثر الوفيات والشهداء، وأحيانًا لا أتواجد سوى ساعة أو ساعتين… لكنه صار واجبًا إنسانيًا تُحتِّمه ظروف الحرب القاسية التي يعيشها القطاع منذ عامين».

من البيوت إلى المستشفيات: ولادة الفكرة بعد 2014

كان تغسيل الموتى وتكفينهم يجري تقليديًا داخل البيوت، على أيدي أشخاصٍ يُعرفون في المجتمع بـ«مغسّلي الموتى». بعد عام 2014، ومع اتّساع الحاجة وتعقيدات الحرب وتداعياتها، قاد متطوّعون مبادرةً لتحويل هذا العمل إلى غرفٍ مجهّزة داخل المستشفيات، بتنسيقٍ مهني مع وزارة الصحة والجهات المختصّة، كي تُسلَّم الجثامين إلى ذويها جاهزةً للمواراة.

الفكرة لاقت قبولًا متزايدًا، بدأت من مستشفيات جنوب القطاع، ثم عُمِّمت تدريجيًا حتى بلغت رفح إلى بيت حانون. وباتت «غرف الغُسل والتكفين» جزءًا من المنظومة اليومية في المستشفيات، تُخفِّف عن العائلات عبئًا ثقيلًا في أدق الساعات.

الوجه الأكثر حضورًا خلف تنظيم هذا الجهد هو أحمد مسلم أبو عيد، المعروف بلقبه «أبو ساجد»، وهو مدير «جمعية قِيراطان» لتغسيل وتكفين الموتى في قطاع غزة. يشرح أبو ساجد أن اختيار اسم «قِيراطان» جاء تبرُّكًا بحديثٍ نبويٍّ عن أجر من يصلّي على الجنازة ويتبعها حتى الدفن، إذ ينال «قيراطين» من الأجر «كجبل أُحُد». الاسم يحمل رسالة موجزة: هذا عملٌ تعبُّديٌّ وإنسانيّ قبل أن يكون خدمةً اجتماعية.

استقلاليةٌ كاملة وترخيصٌ رسمي

يلخّص أبو ساجد مبادئ العمل قائلًا: «نحن فريقٌ متطوّع لا يعمل تحت أي مظلّة حزبية أو تنظيمية أو حكومية». ومع الاستقلالية، ثمة تنسيق مهني مع وزارة الصحة وتقدير متبادل: «الإخوة في وزارة الصحة بغزة لم يُقصِّروا معنا»، على حدّ تعبيره. ويؤكد أن الجمعية مرخّصة رسميًا من رام الله بعد فحصٍ أمني دقيق، وأنها لم تتلقَّ فلسًا واحدًا من أي جهة، كما لا تتقاضى أي مقابل من ذوي المتوفّين: «نُنجز الغسل والتكفين لوجه الله».

الانتقاء والتأهيل… ستة أشهر تحت الاختبار

ليست أبواب «قِيراطان» مفتوحةً على الغارب. «نُصطفي المتطوّعين والمتطوّعات بعناية، فالتعامل مع الجثامين عملٌ شديد الخصوصية ويستلزم صلابةً نفسيّةً وأمانةً مهنيّة»، يقول أبو ساجد. يخضع كلّ من ينضمّ إلى فترة اختبار تمتدُّ ستة أشهر قبل اعتماده. وفي بدايات التأسيس، فضّلت الجمعية من لديهم دخلٌ ثابت «حتى لا يضغط العوز على القرار التطوّعي»، بينما تُحاول مساعدة من لا دخل لهم عبر أهل الخير.

ساعات الخدمة طويلة: من السابعة والنصف صباحًا حتى المغرب حضورٌ دائم، مع ارتباطٍ على مدار الساعة للحالات الطارئة. ويُقدَّر عدد الفريق النشط في مستشفيات القطاع بـ115–120 متطوّعًا ومتطوّعة، رغم أن الحرب خطفت من صفوفهم شهداء ومصابين ومعتقلين.

امتحانان قاسيان: كورونا ثم الحرب

يروي أبو ساجد أن جائحة كورونا كانت أول امتحانٍ عسير: «غطّينا كلّ حالات الوفاة. كان الخوف يجمّد القلوب، ورأينا رجالًا يفرّون من جثامين آبائهم وأمهاتهم خشية العدوى. تولّينا الغسل والتجهيز والنقل إلى المقابر».

ثم جاءت الحرب لتضاعف الأعباء إلى مستوياتٍ غير مسبوقة: «لم يخطر ببالنا أن نجد 120 جثمانًا في ثلاجةٍ واحدة، أو 250 جثمانًا كما في محيط مستشفى الشفاء. انتقلنا أحيانًا من غسل الجسد الكامل إلى جمع الأشلاء… مشاهد تفوق الاحتمال».

ومع ذلك، بقي الفريق متماسكًا: «على مدار عشر سنوات، ظللنا كتلةً واحدة بفضل الله»، يقول أبو ساجد، مشيرًا إلى الصدمات المتلاحقة حين يدخل إلى المغسلة قريبٌ أو ابنٌ أو زوجة لأحد المغسّلين: «كم منّا وقع مغشيًّا عليه؛ لكننا ننهض لنُكمل، لأن الناس تُعوِّل على اتّزاننا في أصعب اللحظات».

تحوّل النظرة المجتمعية ودور النساء

يُسجّل هذا النشاط تحوّلًا اجتماعيًا لافتًا. في البدايات، كان بعض الأهالي—خاصةً في المناطق الريفية—يستنكفون عن الغسل في المغاسل العامة ويعدّونه «عيبًا». اليوم تبدّل المشهد: «الناس تُقبِّل رؤوسنا تقديرًا للعمل»، كما يقول أبو ساجد، وتُسهم فرقٌ نسائية في غسل النساء، بينهنّ متطوّعات مثل أم محمود «أثبتن أن الرقة والصلابة تجتمعان حين يكون الدافع إنسانيًا خالصًا».

بنيةٌ مُهدّمة ونقطة ضوء

تسبّبت الحرب في تعطّل معظم مغاسل المستشفيات أو فقدانها. «لم يتبقَّ عمليًا إلا مغسلة مستشفى ناصر التي أُعيد تشغيلها مؤخرًا»، يوضح أبو ساجد. هذا الانكماش اللوجستي يجعل العمل أكثر قسوة: ازدحامٌ، نقصُ مواد، ومسافاتُ انتظارٍ طويلة لأهالي المفجوعين.

احتياجاتٌ لا تتوقف

كي يبقى الأداء لائقًا بكرامة الراحلين، تُحدِّد «قِيراطان» قائمة احتياجاتٍ عاجلة أهامها توفير أكفانٌ قطنية وبلاستيكية، ومواد أساسية للغسل (شامبو، عطور، كلور) ووسائل تعقيم وحماية.

والحاجة إلى دعمٌ نفسي منظّم للمغسّلين والمغسّلات جرّاء ما يتعرضون له من صدماتٍ متكرّرة.

مساعداتٌ عينيّة وكابونات تُعين عائلات المتطوّعين، خصوصًا من لا دخل لهم.

الجمعية—بحسب مديرها—طرقت أبواب مؤسّساتٍ وجمعياتٍ عدّة لتأمين هذه المتطلبات، «فالعمل مستمرّ، لكن بقاءه مستدامًا يحتاج إلى سند».

معيارٌ أخلاقي: الاستقلال والشفافية

تُصرّ «قِيراطان» على الفصل التام بين رسالتها الإنسانية وأي استثمارٍ سياسي أو حزبي. «نُعامل الجميع بالاحترام، لكنّنا نرفض أن نعمل تحت مظلّة أي جهة»، يقول أبو ساجد. وقد ساعد هذا الخيار في تعزيز الثقة الشعبية: حين يعرف ذوو المتوفّين أن لا أجر مطلوبًا ولا منفعةً متبادلة، يسهل عليهم تسليم أعزّتهم لطاقمٍ يُغسِّل بطمأنينة ويُكفِّن بوقار.

الاسم ليس زينةً لفظية؛ إنما مفتاح رؤية. في الحديث النبوي أن من صلّى على جنازةٍ وتبعها حتى تُدفن فله «قيراطان» من الأجر «كجبل أُحد». بهذا المعنى، تُذكّر «قِيراطان» متطوعيها وقرّاء هذه السطور بأنّ العمل مع الموتى ليس إجراءً فنّيًا فقط، بل هو عبادةٌ ومعيارٌ أخلاقي يزن الأشياء بكرامة الإنسان في لحظته الأخيرة.

كرامةُ الوداع الأخير

بين خيمة أم محمود وباب الثلاجة وغرفة الغسل، تتشكّل سلسلةُ رحمة تصل الراحلين بأحبتهم: ماءٌ يُطهِّر، كفنٌ يُواري، ووجوهٌ تُثبِّت قلوبًا مكلومة. في قلب العاصفة، تقف «قِيراطان»—بقيادة أحمد مسلم أبو عيد (أبو ساجد) ومتطوّعيها ومتطوّعاتها—كي لا يتحوّل الموت إلى مشهدٍ عابر.

هنا، في غزة التي لم تهدأ منذ عامين، يصبح حفظ كرامة الوداع الأخير فعلًا يوميًا، وصمودًا صامتًا، ودرسًا في أن الإنسانية قد تُجرَح لكنها لا تموت.

المصدر: خاص وكالة قدس نت للأنباء - قطاع غزة