رغم الدمار الممتد والحصار المستمر منذ أكثر من عامين، تتكئ غزة على مبادرات أهلية وشبابية آخذة في الاتساع لتسدّ فجوات الغذاء والماء والرعاية والتعليم والدعم النفسي. هذه الجهود، التي انطلقت من دون موازنات رسمية أو برامج دولية كبرى، تحوّلت إلى شبكة مساندة يومية تُبقي الحياة ممكنة وتعيد تنظيم الضروريات في بيئة شديدة القسوة.
مشهد عام: مبادرات تسدّ الضروريات
مع انهيار أجزاء واسعة من البنية التحتية ونقص الخدمات الأساسية، برزت مبادرات مجتمعية تعمل على إطعام النازحين في المخيمات، ونقل مياه الشرب، وجمع الأدوية وتأمين حليب الأطفال، والمساعدة في دفن الشهداء وتنظيف الشوارع، وتقديم دعم نفسي أولي للمتضررين. ويعلّق خبير التنمية البشرية الدكتور نبيل اللوح بأن ما يجري «ليس مبادرات عابرة بقدر ما هو حركة حياة في وجه الفناء»، مشيرًا إلى أن أبسط الأفعال «أضحت بطولية» في ظل الجوع والبرد والخطر اليومي. ويضيف أن هذه الجهود المتناثرة عززت التكافل والصمود، وأن «الروح الجماعية ما زالت قادرة على ترميم ما تهدّم».
الشباب في الواجهة: من الإغاثة إلى التوثيق
يقف الشباب في واجهة المشهد: فرق تطبخ وتوزع الطعام والمياه، وأخرى تساعد في عمليات الدفن والنظافة العامة، فيما يتولى ناشطون توثيق الانتهاكات بالصوت والصورة. ويؤكد اللوح أن «قتل عشرات الصحفيين لم يقتل الحقيقة»، معتبرًا أن الرواية اليومية التي يوصلها الشبان «حوّلت المأساة إلى سردية صمود»، ورسّخت وعيًا عامًا بعدالة القضايا الإنسانية المطروحة.
التعليم كمسار مقاومة: «الجنان الحديثة» نموذجًا
على خط التعليم، تبرز مبادرة «روضة ومدرسة الجنان الحديثة» التي أطلقتها الدكتورة رِناد الحلو من بين الركام. فقد فقدت مؤسستها الأصلية قبيل افتتاحها نتيجة القصف، لكنها أعادت إطلاق المدرسة ثلاث مرات في أماكن نزوح مختلفة، «من دون خيام ولا مقاعد»، كما تقول، حيث دارت الحصص فوق الأرض وتحت الشمس والمطر، وبموارد شبه معدومة. وتضيف الحلو: «بعض الأطفال استُشهدوا خلال القصف، لكن الاستسلام يعني موتًا آخر». ومع تفاعل لافت من الأهالي وتطوع معلمات نازحات، غدا التعليم «شكلًا من أشكال المقاومة»، على حد وصفها.
لم يقتصر الدور على الجانب الأكاديمي؛ فقد دمجت الحصص أنشطة نفسية لخفض مستويات الخوف والغضب لدى الأطفال ورفع القدرة على التركيز. وتوضح الحلو أن «نقل الطفل من دائرة الخوف إلى التعلم» هدفٌ يومي، وأن التجربة أثبتت أثر التعليم الداعم نفسيًا على سلوك الأطفال واستقرارهم. وتختم بالتأكيد أن النساء قُدن مبادرات الصمود «بين رعاية الأسرة وقيادة الفعل المجتمعي»، مع حلم بإعادة بناء المؤسسة وتوسيع فروعها لتصل مخيمات النزوح كافة.
ريادة من تحت الصفر: اقتصاد مجتمعي بديل
اقتصاديًا، يشرح استشاري الريادة وتطوير الأعمال الدكتور سامي أبو شمالة أن الحرب «قضت على معظم المشاريع الصغيرة»، لكن «روح الريادة لم تمت». فعقب تعطل الإنترنت والكهرباء وتضرر الأسواق، برزت مبادرات تُوفر أماكن عمل آمنة مزوّدة بالكهرباء والاتصال للعاملين عن بُعد، إلى جانب تجمعات تعليمية تطوعية، ومشاريع تعاونية صغيرة تقودها سيدات محدودات الدخل لتأمين موارد للعائلات.
ويعتبر أبو شمالة أن المحاولات تبدو محدودة ظاهريًا، لكنها «بذور لاقتصاد مجتمعي بديل عندما يتعذر العمل المؤسسي»، متوقعًا أن تُثمر المرحلة المقبلة عن «جيل جديد من الرياديين بدأوا من الصفر»، مع التحذير من أن غياب الدعم المؤسسي يبقى «التحدي الأكبر» لاستدامة هذه النماذج.
حاضنة وطنية للأفكار: برامج تحدّي وهاكاثونات
على مستوى الإسناد المؤسسي، يؤكد المستشار ماهر شبير، عضو المجلس الأعلى للإبداع والتميّز، أن المجلس تعامل مع المبادرات الفردية بوصفها «طاقة وطنية يجب احتضانها». وخلال الحرب، جرى رصد المبادرات الميدانية وإطلاق أدوات رقمية لتقييم الأفكار ومتابعتها رغم صعوبات الاتصال. ومن البرامج التي أُطلقت «هاكاثون غزة في الطوارئ» و**«تحدي الابتكار من أجل البقاء»**، بهدف توليد حلول سريعة للتعليم والمياه والطاقة.
ويسوق شبير أمثلة مثل «مبادرة حياة» لتحسين شروط الإيواء للنازحين، و**«مسابقة القصة الملهمة»** لتوثيق حكايات الصمود والإبداع. ويخلص إلى أن «الإبداع ليس ترفًا في زمن الحرب، بل وسيلة للبقاء» وإعادة امتلاك السرد من قبل المتضررين أنفسهم.
شبكة صمود غير مرئية
تُجمع الشهادات على أن لكل بيت مدمّر من يسنده، ولكل خيمة من يعين على نصبها. إنها «شبكة صمود غير مرئية» ينسجها الناس بمواردهم المحدودة، وتعمل بالتوازي مع جهود الإغاثة الرسمية والدولية عندما تتوفر. هذا التنظيم الذاتي خفّض كلفة الانهيار الكامل للخدمات، وأبقى قنوات التعليم والماء والغذاء والدعم النفسي مفتوحة الحد الأدنى الممكن.
وبحسب مراقبين تحتاج المبادرات للاستمرار إتاحة آمنة ومسارات لوجستية لوصول الإمدادات (غذاء، ماء، دواء، وقود) إلى نقاط المبادرات، وتوفير دعم مالي صغير وسريع يضمن استدامة مبادرات التعليم المجتمعي والمطابخ الميدانية ونقاط المياه، وتصاريح واتصالات لتسهيل تنقل الفرق والمتطوعين وحاضنات محلية وشركاء دوليون لتحويل الأفكار الفردية إلى نماذج قابلة للتكرار، دعم نفسي اجتماعي مدمج في التعليم والإغاثة، وبناء قدرات للمتطوعين على الإسعافات الأولية النفسية.
لا تختزل غزة في معادلة البقاء فحسب؛ إذ تظهر المبادرات الأهلية والشبابية قدرة المجتمع على إعادة تعريف الحياة وإنتاج المعنى تحت أقسى الظروف. من كوب ماء يصل في الوقت المناسب، إلى حصة دراسية على أرض رطبة، إلى مساحة عمل صغيرة تعيد لأحدهم مصدر رزقه، تتشكّل يوميًا حلقات إنقاذ متصلة. وبينما يبقى الدعم المؤسسي والدولي مطلوبًا لتوسيع الأثر وضمان الاستدامة، أثبتت التجربة أن المبادرة المحلية هي الشرارة الأولى والأكثر ثباتًا. من هنا، يخرج الصوت واضحًا: الحياة تُصنع، حين يُبادر الناس إليها.
