بقلم مصطفى إبراهيم :- شهدت الساحة الدولية في الأشهر الأخيرة تحركات متسارعة نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية، في خطوة وصفت بأنها تحول استراتيجي في الموقف الغربي من القضية الفلسطينية. فبعد حرب غزة المستمرة منذ عامين، وما خلّفته من جرائم إبادة وتجويع وحصار، أعلنت بريطانيا وأستراليا وكندا والبرتغال رسمياً اعترافها بفلسطين، لتنضم إلى موجة دبلوماسية آخذة في الاتساع. هذه الاعترافات، رغم طابعها الرمزي، تفتح الباب أمام معادلة جديدة في العلاقة بين الاحتلال الإسرائيلي وفلسطين والمجتمع الدولي.
لم تكن هذه الخطوة معزولة. ففي العام الماضي، اعترفت دول أوروبية مثل إسبانيا والنرويج وإيرلندا وسلوفينيا بالدولة الفلسطينية، لتلحق بها هذا العام بريطانيا وكندا وأستراليا والبرتغال ومالطا. وبذلك، باتت فلسطين تحظى باعتراف 145 دولة من أصل 193 عضوًا في الأمم المتحدة، أي نحو ثلاثة أرباع المجتمع الدولي.
ورغم هذا الزخم، يبقى المشهد الأوروبي منقسمًا: السويد اعترفت منذ عام 2014، فيما تبعتها موجة ثانية عام 2024، ثم موجة ثالثة عام 2025. لكن دولًا محورية مثل ألمانيا وإيطاليا ترفض الإقدام على هذه الخطوة، متمسكة بالموقف الأميركي الرافض لأي حديث عن دولة فلسطينية. هذا الانقسام يكشف أن الاعتراف لا يزال أداة سياسية أكثر من كونه توافقاً دولياً ملزماً.
من الناحية القانونية، يوضح أستاذ القانون الدولي رومان لوبوف أن الاعتراف "واحد من أكثر المسائل تعقيداً في القانون الدولي"، إذ يظل قراراً سيادياً لكل دولة دون وجود آلية مركزية لتسجيله. أما فيليب ساندز، أستاذ القانون الفرنسي البريطاني، فيعتبر أن الاعتراف "تغيير في قواعد اللعبة"، لأنه يضع فلسطين وإسرائيل على قدم المساواة في التعامل بموجب القانون الدولي، حتى لو لم يؤدِّ مباشرة إلى تغيير ميزان القوى على الأرض.
على الرغم من اتساع رقعة الاعتراف، فإن التحدي الأكبر يكمن في محدودية نتائجه العملية. فالغرب، حتى اللحظة، لم يربط هذه الخطوة بأي عقوبات أو ضغوط حقيقية على إسرائيل، الأمر الذي يجعل الاعتراف أقرب إلى موقف رمزي أو رسالة سياسية، أكثر منه أداة لتغيير الواقع الميداني.
إسرائيل، من جانبها، لم تُبدِ أي استعداد للتجاوب الإيجابي مع هذه التطورات. على العكس، صعّدت الحكومة الإسرائيلية من خطابها وإجراءاتها: طردت دبلوماسيين أستراليين ونرويجيين، وسرّعت من وتيرة الضم في الضفة الغربية. بل إن وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، لوّح مؤخراً بفصل البنوك الفلسطينية عن المنظومة الاقتصادية الإسرائيلية، وهو ما وصفه بعض الدبلوماسيين الغربيين بـ"القنبلة النووية" التي قد تدفع المنطقة نحو انفجار سياسي وأمني واسع.
أما الموقف الأميركي، فيبقى العقبة الأساسية أمام تحويل الاعتراف الغربي إلى سياسة فاعلة. فواشنطن، ومعها حلفاؤها المباشرون مثل ألمانيا وإيطاليا، ترفض بالمطلق فكرة الدولة الفلسطينية، معتبرة أن أي خطوة في هذا الاتجاه تقوّض أمن إسرائيل. هذا الموقف يحدّ من تأثير الاعتراف، ويعكس حدود قدرة أوروبا ودول الكومنولث على تغيير قواعد اللعبة من دون غطاء أميركي.
رغم محدودية النتائج المباشرة، فإن لهذه الاعترافات تداعيات لا يمكن تجاهلها، فيما يتعلق بإسرائيل يضعها الاعتراف أمام عزلة متزايدة في المحافل الدولية، مع خطر تصاعد ردود الفعل الأوروبية، خاصة إذا ما أقدمت على ضم رسمي لمناطق في الضفة الغربية. مثل هذه الخطوة قد تدفع الاتحاد الأوروبي إلى مراجعة اتفاقيات التجارة الحرة أو تقييد التعاون الاقتصادي، وهو ما يشكل ضغطاً مباشراً على الاقتصاد الإسرائيلي.
الاعتراف يعزز الشرعية الدولية لفلسطين، ويمنحها موقعًا أكثر قوة في المؤسسات الأممية والمحاكم الدولية. لكنه لا يوقف الاستيطان، ولا يرفع الحصار عن غزة، ولا يوقف القصف. الشرعية على الورق لا تعني بالضرورة حماية على الأرض.
الرئيس عباس محمود عباس لم يتوقف عن التأكيد على تنفيذ جميع الالتزامات والإصلاحات التي تعهدت بها دولة فلسطين، في حين يشكك الفلسطينيين في مدى قدرة السلطة الفلسطينية على تغييرات حقيقية في النظام الفلسطيني، من دون تقديم أي التزامات يفتح نقاش وطني وإقناع عموم الشعب الفلسطيني أن المرحلة القادمة ستؤسس لنظام فلسطيني مؤمن بالديمقراطية والتداول السلمي على السلطة وسيادة القانون.
والخشية قائمة من استمرار الحالة القائمة من الترهل والاستمرار في السياسات القائمة على مصالح الطبقة العليا المرتبطة في القيادة الفلسطينية، وحالة الانكار التي تعيشها.
وهل ستجري القيادة الفلسطينية إصلاحات قائمة على إرادة الفلسطينيين ومصالحهم وليس بناء على الشروط الأوروبية لتجديد النظام السياسي الفلسطيني؟
الخطاب المرتقب لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في الجمعية العامة للأمم المتحدة سيعكس حجم الضغوط التي يواجهها. فبعد اتساع موجة الاعترافات وتصاعد الاحتجاجات الشعبية ضد سياساته، يجد نتنياهو نفسه في موقع دفاعي. في ظل انهيار غير مسبوق في صورته وصورة إسرائيل عالمياً. هو يرى نفسه "حامي إسرائيل"، بينما يرى فيه مواطنون في أوروبا وأميركا اللاتينية والعالم العربي ممن يتابعون صور غزة، مجرم حرب دموي ساخر.
السؤال هو: هل سيلجأ إلى خطاب تصعيدي يستعرض فيه "صلابة إسرائيل" بوجه الضغوط الدولية، أم أنه سيلمح إلى استعداد شكلي للمصالحة من أجل امتصاص النقمة العالمية؟ كلا الخيارين يعكس مأزقًا عميقًا: إسرائيل لم تعد قادرة على إنكار أن جزءًا متزايدًا من المجتمع الدولي لم يعد يقبل بمشروعها الاستيطاني وسياسات الضم.
الاعتراف الغربي بفلسطين خطوة مهمة، لكنها لا تكفي وحدها. إن لم ترافقها آليات ضغط حقيقية، اقتصادية، سياسية، وعقوبات. فستظل في إطار الرمزية، بينما يواصل الاحتلال سياساته من دون رادع. لكن هذه الرمزية بحد ذاتها ليست بلا قيمة: فهي تضع إسرائيل في موقع عزلة متنامية، وتؤكد أن الرأي العام الدولي بدأ يتغيّر ببطء، وأن فكرة الدولة الفلسطينية لم تعد هامشية كما تحاول إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية تصويرها.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت