بقلم حسين لافي/ المفاوضات والاتفاقات ما هي إلا نتاج موازين القوة للأطراف المتفاوضة، والقاعدة السياسية الأساسية تقول هناك فرق بين ما هو ممكن تحقيقه وبين ما هو مرغوب تحقيقه، خطة دونالد ترامب لإنهاء الحرب على غزة وتشكيل اليوم التالي لحكم غزة وإعادة صياغة الشرق الأوسط مثال حقيقي على ذلك.
فالخطة تتناقض فعليا عما كان يرغب به ترامب نفسه لغزة، وتراجع عن خطة ريفيرا غزة التي قدمها ترامب في السابق، والمرتكزة على التهجير الطوعي لسكان قطاع غزة، وان تكون غزة عبارة عن فارغة من سكانها، كأي قطعة أرض لمشروع استثماري يراد بناء مشروع تجاري اقتصادي عليه، بمعنى خطة ترامب السابقة ريفيرا غزة، كانت خالية بالمطلق من أي بعد سياسي حقيقي تجاه حقوق الشعب الفلسطيني، بل كانت تحقيق الحلم الصهيونية الدينية واليمين الاسرائيلي في حسم الصراع مع الفلسطيني من خلال التهجير ومن ثم الاستيطان الدائم، ولذلك خطة ريفيرا غزة تمسك بها وروج لها اليمين الاسرائيلي وخاصة بن غفير وسيمونريتش وطالبوا أن تكون خطة عمل الحكومة الاسرائيلية.
لكن خطة ترامب الحالية خطة ال21 نقطة، فحواها الاصلي سياسي وتعزز وجود الشعب الفلسطيني في غزة وعلى أرضه، بل وتتكلم بشكل مباشر في بنودها عن حل الدولتين، حتى ولو كان بضبابية كبيرة، لكن هذا انقلاب حقيقي على الموقف السابق، ليس كون ترامب أدرك خطأه بل لأن الموقف الدولي عارض بشكل قاطع تهجير الفلسطيني ، بل أعلن بمظاهرة دولية غير مسبوقة في الأمم المتحدة تمسكه بحل الدولتين وحق الفلسطينيين بإقامة دولة فلسطينية من خلال اعتراف الدول الأوروبية الكبرى بالدولة الفلسطينية.
ناهيك عن الموقف العربي والتركي وخاصة المصري يرفض التهجير والضم الصفة الغربية، واعتبار ذلك خط احمر على الأمن القومي للمنطقة.
وهنا يمكن الحديث عن موقف عربي تركي داعم للخطة، كونها توقف التدهور الأمني في المنطقة، وتمنع اسرائيل من أخذ المنطقة لمزيد من الحروب، وعدم الاستقرار، والأهم تبرد الجبهة الفلسطينية لوقت طويل، وتمنحهم الورقة التي كانوا يطالب بها العرب وخاصة السعودية وهو حل الدولتين، لفتح الباب أمام أي خطوة تطبيعية في المستقبل في حال قررت السعودية ذلك، ولكن الأهم هذه الخطة استجابة صريحة للمخاوف المصرية والأردنية من التهجير وتأثير ذلك على استقرارهما الداخليين.
أدرك ترامب كسياسي من أصول تجارية تغير موازين القوة في هذه النقطة، ولذلك باتت خطته لغزة سياسية بامتياز وليس مجرد ارض يراد تفريغ ساكنيها لإنشاء مشاريع اقتصاديه عليها، وكأي رئيس أمريكي هو منحاز بالكامل للمصلحة الاسرائيلية، ومن يتوقع منه غير ذلك، فهو ساذج سياسيا، ولكن هناك هامش بين مصلحة اليمين الاسرائيلي المتطرفة حتى بالعيون الأمريكية وبين مصلحة امريكا في المنطقة التي بالتأكيد لا تتناقض مع مصلحة اسرائيل العامة، ما حدث في الأشهر الأخيرة أن الدم الفلسطيني والصمود الاسطوري للشعب الفلسطيني في غزة نجح بكشف الوجه الحقيقي لاسرائيل وقادتها، فوضعها في تناقض حقيقي وفعلي مع المجتمع الدولي، وبدأت اسرائيل تعاني من العزلة الدولية حتى من الدول الأوروبية التي ساهمت في تأسيسها مثل بريطانيا وفرنسا وحتى داخل قطاعات كبيرة بالمجتمع الأوروبي والامريكي، الأمر الذي جعل ترامب يحذر نتنياهو من ذلك خلال الشهرين الاخيرين، وهنا تأتي خطة ترامب كطوق نجاة لاسرائيل من نفسها، ومن العزلة السياسية والدولية المتزايدة، وكما وصف نتنياهو خطة ترامب أنها انقلاب سياسي استراتيجي وأن الخطة عزلت حركة حماس بعد أن كانت اسرائيل من العزلة، وخاصة مع موافقة الدول العربية والبعض الاسلامية للخطة، وخاصة قطر وتركيا التان تعتبران داعمان مركزيتان لحركة حماس.
أما من الجهة الاسرائيلية، موافقة نتنياهو على الخطة، لم تأت بالسياق الطبيعي لسياسات نتنياهو وحكومته وشركائه بالائتلاف، فالضغط الأمريكي بقيادة ترامب لم يكن أمرا يمكن تجاهله أو مواجهته من قبل نتنياهو. الأمر الأهم أن الخطة فعليا تقدم لاسرائيل الشيء الذي لم تكن قادرة حتى الآن تنفيذه وهو إطلاق سراح الأسرى الاسرائيليين من يد المقاومة، فالشيء الأساسي والواضح بشكل كبير هو إطلاق سراح الأسرى خلال 48 من التوقيع، وهذا إنجاز لا يمكن لنتنياهو القفز عنه إعلاميا وسياسيا أمام الضغوطات الداخلية، والأهم أنها تأتي ضمن خطة متكاملة تحقق الشروط الرئيسة له وهي نزع سلاح حماس وابعاد حماس عن الحكم، وإطلاق سراح الاسرى، والأهم أن الخطة تأتي في السياق الاستراتيجي الذي نظر له نتنياهو وهو تغيير وجه الشرق الاوسط،.
وهنا لابد من وقفة، نتنياهو لم يرد تغيير الشرق الأوسط بهذه الطريقة، بل أراد تغييرها بالقوة ودبلوماسية طائرات آلاف 35، ولكنه أجبر تحت تغيير الموازين أن يسير في هذا المسار السياسي، كون الجيش الاسرائيلي فشل باستعادة الاسرى، بل أعلن عن عدم قدرته لفعل ذلك دون تعرضهم للخطر، وتعاظم عزلة اسرائيل الدولية، ولكن لعل نتنياهو يراهن على رفض حركة حماس للخطة، وبذلك ينال الدعم الكامل لترامب والعالم الاستمرار بمشاريعه المتطرفة التهجير، الاحتلال، الاستيطان، والضم، ودبلوماسية الطائرات المقاتلة.
فلسطينيا، للأسف هناك موقفين فلسطينيين، وليس موقف واحد موحد، فالسلطة الفلسطينية رحبت بخطة ترامب، واعتبرتها شيء جيد جدا، فهي بالنسبة لها تكسر خط نتنياهو الأحمر الذي كان يرفض أي دور للسلطة في حكم غزة، وذلك لأسباب لها علاقة بقتل الوحدة الجغرافية الفلسطينية لوأد حل الدولتين بالمطلق، والأمر الثاني أن الخطة فتحت ثغرة في الموقف الاسرائيلي الرافض بالمطلق لإحياء حل الدولتين، والذي تعتبره خطرا وجودها عليها، رغم أن الحديث عن دور للسلطة في غزة مرهون بعدة شروط لا يمكن تنفيذها كما يقول البعض في اسرائيل، ولا معلوم متى يتم التأكد من تنفيذها، ومن هي الجهة التي ستقرر أنه تم تنفيذها، والأمر ينسحب على قضية حل الدولتين.، والأهم أن الخطة تقطع الطريق عن ضم الضفة الغربية والسعي الاسرائيلي تجاه انهيار السلطة في الضفة الغربية لأسباب سياسية لها علاقة بقتل اي ممثل فلسطيني معترف به من المجتمع الدولي.
أما حركة حماس، فالخطة الأمريكية لا تلبي الحد الادنى مما كانت تطمح له عندما اتخذت قرار عملية طوفان الأقصى، بل هي تطالبها بنزع سلاحها، وتخليها عن حكم غزة، وتسليم الأسرى ، لكن حماس تدرك أن موازين القوة على الأرض، وحرب الإبادة الجماعية وحجم الكارثة الإنسانية في المستمرة منذ عامين، تجعل من تلك الطلبات أمرا ممكن مناقشته، وإمكانية قبوله كبيرة، لكن الخطة الأمريكية في الوقت ذاته، لا تلبي تفصيليا، الشرطين الأساسيين الذي يجعل حركة حماس والفصائل الفلسطينية المقاومة تتجرع سم الموافقة على الخطة، الأول،وهو نص واضح وصريح بأجندة زمنية وخرائط تنفيذية لانسحاب الجيش الاسرائيلي من كامل قطاع غزة، الثاني، ضمانة دولية وأمريكية لتنفيذ اسرائيل كامل البنود بعد إطلاق سراح الأسرى الاسرائيليين. وفقدان حماس والفصائل الورقة الأهم بأيديهم.
لكن حركة حماس والفصائل الفلسطينية المقاومة ليسوا عبثيين فهم يدركون حجم مأساة شعبنا في غزة، و وفي ذات الوقت يدركون الفخ الاستراتيجي الذي نصبه لهم ترامب بأن رفضهم للخطة سيجعل الشعب الفلسطيني يفقد الانجاز الأهم له في هذه الحرب وهو كسب التعاطف الدولي الرسمي والشعبي وكشف اسرائيل كقوة احتلال استعمارية استيطانية الحالية يقودها مجموعة من المتطرفين، ولذلك مطلوب منهم أن يفكروا بعقلانية موازين القوى وليس بعاطفة الرغبات الوطنية حتى ولو كانت محقة وعادلة، لذلك قبول المباديء العامة التي نادت بها الخطة، وهي وقف الحرب، وترتيب اليوم التالي لغزة من أجل أعمارها وابقاء سكانها بها، وإحلال الاستقرار في المنطقة، شيء لا يتعارض مع المصلحة الفلسطينية، مع فتح الباب للتفاوض الجدي والسريع حول تفاصيل الخطة واجندتها الزمنية وخطواتها العملية ، ومع كل ذلك الحفاظ على الدعم الدولي للموقف الداعم لإنهاء الحرب على غزة، والاستفادة من أي مواقف عربية.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت