بين تصريحات عباس ومقالات الحمامي والصواف

بقلم: وسام الفقعاوي


اِستنكر وأدان واستهجن واستغرب.. عدد مهم من الفصائل الفلسطينية وشخصيات وطنية تصريحات محمود عباس التي أدلى بها للقناة الثانية لتلفزيون دولة الاحتلال/العدو الصهيوني، والتي تناولت الحقوق التاريخية والثابتة لشعبنا الفلسطيني وحقه في استخدام كافة أشكال المقاومة لاستعادتها وتحقيق عودته إلى أرض وطنه، التي لا وجود لدولة اسمها "إسرائيل" فيها، لكن يبدو أن كل الذين استنكروا وأدانوا واستهجنوا واستغربوا.. "غاب عنهم أو غيّبوا"، أن هذا هو نهج محمود عباس منذ أواسط السبعينيات ولم يُخفهِ في يوم من الأيام، كونه يأتي في سياق الوظيفة التي يؤديها ارتباطاً بالأجندة المحددة سلفاً، وكانت إحدى حلقاتها المستمرة اتفاق إعلان المبادئ "أوسلو" وما تلاها من اتفاقات. وهنا من حقنا أن نتسآل هل كانت تصريحاته تحتاج لكل بيانات الاستنكار والإدانة.. التي صيغت وقيلت على الطريقة العربية والفلسطينية الدارجة والممجوجة، والتي هي ذاتها التي كانت تدين وتستنكر الاعتداءات والإرهاب والمجازر الصهيونية بحق شعبنا دون أن تحرك ساكن؟؟ أم أن المسألة وصلت إلى الدرجة التي يجب أن نقول لرأس هذا النهج وأصحابه، الذين ارتبطت مصالحهم ووجودهم بدولة الاحتلال الصهيوني، وأصبح الدفاع عن وجودها وليس الاعتراف بها فقط هو دفاع عن وجودهم واستمرار مصالحهم.. كفى وللخلف دُر.
وليس بالطريقة التقليدية بمطالبة الميت أن يحاسب الحي، أو بالخُطب العصماء على شاشات التلفزة وأثير الإذاعات، أو فشة الخلق بشتائم من العيار الثقيل، إن المطلوب هو تغيير المسار الذي يساعد عباس على الاستمرار على ذات النهج/الوظيفة دون أي رادع أو واعز وطني أو أخلاقي اتجاه قضية شعبه العربي الفلسطيني صاحب أعدل وأنبل قضية على وجه الأرض، وقيادة كانت في أغلب مراحل نضاله أدنى من أهدافه وطموحاته وتضحياته وعطائه وطول صبره ونفسه، بل على العكس تماماً استثمرت ووظفت كل ما سبق في مشاريع ارتهان وتبعية وإهدار للحقوق ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، وعليه فإن المطلوب في هذه اللحظة استحضار الشهيد المبدع غسان كنفاني ليقول لنا مجدداً (إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية فالأجدر بنا أن نغير المدافعين لا أن نغير القضية). هذا بالضبط الرد على نهج ووظيفة محمود عباس، الذي يريد أن يغير القضية في الوعي أولاً، وفي حقائق التاريخ ثانياً، وفي نفي وجود شعبها ثالثاً، وفي ابتذال السياسة رابعاً، وفي الحط من المقاومة/القوة خامساً، لكي يحقق لهدف الوظيفة مكان على الخريطة.
إن تغيير "المدافعين الفاشلين"، يتطلب اشتقاق مسار جديد في ضوء المأزق الذي أوصلتنا إليه "القيادة الفلسطينية"، هذا المسار نقطة البدء به مغادرة فاتحة قاطرة التسوية بالمعنى الفعلي التي تعددت أسماؤها بين النقاط العشر والحل المرحلي والثوابت الفلسطينية وحل الدولتين... بما أسس لوهم مفاده أنه يمكن لدولة الاحتلال/العدو الصهيوني أن تسمح من خلال تسوية سياسية بوجود دولة فلسطينية على خاصرتها تتمتع بسيادة على إقليمها وسكانها ومواردها وقرارها، وتشكل بالتالي خطراً على أساس وجودها ومرتكزاتها ودورها ووظيفتها المرتبطة عضوياً قديماً وحديثاً بالإمبريالية العالمية وتحديداً الأمريكية، بما يعني ضمناً قراءة خاطئة لمنطلقات الصراع الجوهرية التي مرتكزها مؤسس على أن وجود دولة الاحتلال/العدو الصهيوني هو لنهب ثروات وخيرات وموارد الوطن العربي، والسيطرة على كل عوامل وحدته وتقدمه، وحراسة وضمان مصالح الإمبريالية، وهذا يعني في إطار الدور والوظيفة المحددة استخدام كل وسائل الترهيب والترغيب ومنها تجنيد حلفاء من "جبهة الأعداء" يُسهّل لهم ذلك، فارتهن وخضع النظام الرسمي العربي ومنه بالتأكيد الفلسطيني، كما أن ثاني أهم مرتكزات الفكرة الصهيونية هي نفي وإلغاء وجود الشعب الفلسطيني وحقوقه التاريخية في أرض وطنه، وهذه لن يستعيدها أي من الحلول السابقة كونها -رغم عدم واقعيتها- تُسقط جوهر الصراع العربي - الصهيوني وهو حق العودة وإن كان البعض يحاول تجميل ذلك بربط بعضها بقرار الأمم المتحدة رقم 194، وفاتهم أو َفوّتوا أنه لا يمكن أن تقبل "إسرائيل" بعودة ملايين الفلسطينيين المشردين إلى أي دوله مفترضة من الحلول التي طرحت ولا زال البعض يراهن عليها أو على بعضها، لذلك فلندقق في خيارات/سيناريوهات ما بعد الانقسام الذاهب نحو الانفصال ما بين مصر والأردن، التي لم تغب عن بال الساسة الصهاينة وتهدف إلى تذويب وتبديد القضية والشعب الفلسطيني إلى أبعد مديات ممكنة.
إن تغيير "المدافعين الفاشلين"، يعني أن المؤسسة التي شكلت عنواناً للنضال الوطني الفلسطيني والبيت الجامع للفلسطينيين وسقط تحت رايتها عشرات الآلاف من الشهداء، ومئات الآلاف من الأسرى والجرحى، والذين رؤوا فيها مَنفذا ومُنقذا للخلاص من الاحتلال ووجوده، هي التي خذلتهم وضيعت تضحياتهم، وليس هذا فحسب، بل بهتت وأهدرت الأهداف والحقوق التي ناضلوا من أجلها، وثّبتت وجود دولة الاحتلال/العدو على أرضهم، مما دفع بشمعون بيرس لأن يقول بأن من أهم انجازات اتفاق أوسلو هو شطب منظمة التحرير الفلسطينية بعد كسب الاعتراف "بدولة إسرائيل" منها، وعليه هل لا زالت المنظمة بتركيبتها وبنيتها وقيادتها ونهجها ووظيفتها الحالية، تقود حركة تحرر وطني من الاحتلال أم عامل لتثبيت وجوده ومده بسبل الحياة والتركيز وبالتالي استمرار الدور والوظيفة المحددة له؟؟ هذه ليست دعوة لتشييع المنظمة، بل دعوة لاستعادتها من خاطفيها، ليس بالجلوس على طاولة المنظمة/السلطة، بل بالارتكاز إلى القاعدة/الكتلة الشعبية صاحبة الحق والقوة والقرار.
إن تغيير "المدافعين الفاشلين"، لا يكون بتجميل السلطة والتغزل بمفاتنها التي "ذمووها أصحابها"، فلم تكن السلطة ولن تتحول رافعة للمشروع الوطني الفلسطيني كما اعتقد البعض، بل شكلت قيد على حقوقنا وحركة فعلنا، وأبرزت الصراع وكأنه نزاع، وحولت الحقوق إلى استجداء، ونخرت في عظم قيمنا الوطنية والاجتماعية، وأدمت قلوب شعبنا وكل محبي قضيتنا، ومزقت ما تبقى من الوطن إلى نصفين (الدولة المفترضة لدى البعض)، ولن تكون أكثر من ترس في بندول جسم يتحرك برسم الإشارة لحين الانتهاء من بناء وإعلان الإمارة.
إن تغيير "المدافعين الفاشلين" لن يكون إلا باستعادة فلسطين في الوعي والممارسة، في الغاية وأدوات تحقيقها، في الهدف والوسيلة، في رايتها وراياتنا، بحيث تعلو ولا يُعلى عليها.
أما بخصوص مقالات إبراهيم الحمامي ومصطفى الصواف والأول عنوانه، "أصدقكم القول يا سادة أني أتشفى بسلطة العار وبقايا اليسار في هذا اليوم"، وهنا يعنيني تشفيه باليسار، وتحديداً الجبهة الشعبية، على أثر موقفها بعدم استقبال أمير قطر حمد بن جاسم وزوجته موزة لدى زيارتهما لقطاع غزة، والثاني عنوانه "حماس لم تغير قناعاتها"، على أثر تصريحات الدكتور رباح مهنا عضو المكتب السياسي للجبهة بأنه جرى لقاء في دولة أوروبية جمع بين وفدين حمساوي وآخر "إسرائيلي".
أولا، في العنوان ولغة التشفي التي لا تنم إلا عن ثأر وحقد دفين لا يمكن أن يتحلى به أي كاتب أو صاحب رأي موضوعي وبنّاء، بل هو تعبير عن ابتذال وإسفاف قيمي/أخلاقي وسياسي، لا يليق أن يلتصق بمن يحمل لقب دكتور في طب العائلة "هذه المهنة التي لا يمكن أن يتقنها إلا إنسان بكل معنى الكلمة" كون العائلة الفلسطينية تحتاج لمن يشفيها لا لمن يدميها.
ثانياً، ألا يدل عنوان المقال ومضمونه غياب لكل مفاهيم احترام حق الاختلاف الفكري والسياسي، خاصة وأن الحمامي يعيش في رحاب "الديمقراطية البريطانية"، صاحبة وعد بلفور ومؤسسة مداميك دولة الاحتلال/العدو الصهيوني، وعليه استنفره حد التشفي مقاطعة زيارة أمير قطر، ولم يستنفره حد التشفي مصافحة واحتضان الأخير لرؤساء دولة العدو الصهيوني، والولايات المتحدة "الشيطان الأكبر" في قطر القاعدة.
ثالثاً، تركيز الهجوم شبه الدائم ومنذ فترة على اليسار وتحديداً الجبهة الشعبية، واتهامها بالارتهان لقرار محمود عباس، خوفاً من قطع أموال المنظمة عنها (رغم أنها قُطعت لسنوات طوال ولمرات متكررة، ولم تغير من منطلقاتها ورؤيتها وإستراتيجيتها وسياساتها ومواقفها)، ألا يعني في المضمون أن حجم التأثير لمواقف اليسار تلقى صدىً وسط الجماهير ووسط قاعدة حماس أيضاً (رغم عدم مناسبة وزن وفعل اليسار على الأرض)، وإذا كانت غير ذلك ما الداعي للتشفي، ألا يكفي التجني.
رابعاً، أما حول قطر وأميرها والتي قالت فيه الجبهة بأنها لن تستقبل خادم السياسة الأمريكية والصهيونية في المنطقة، فلم ينكر الحمامي ما ذهبت إليه الجبهة في مقاله، بل استخدم قول/مثل إخوانا المصريين "يااااه، لقيتوا التايهة"، وبحسب منطوق المثل التايهة موجودة أمامنا لكننا لم نكن نراها، بما يعني أن قطر تقيم علاقات (وهي أكثر من ذلك) مع الاحتلال/العدو الصهيوني. وطالما الأمر كذلك فهل يليق أو يقبل أو مطلوب من حركة "مقاومة وممانعة" أن تستقبل من يقيم علاقات مع دولة الاحتلال/العدو الصهيوني على "القطعة المحررة" من فلسطين، والتي ستشكل منطلقاً للتحرير حسب الادعاءات التي تُسمع. ألم تسمع ما قاله أميرك على أرض المقاومة، بأن خياري المفاوضات والمقاومة قد فشلا، فأي خيار إذن المطروح؟؟!! وبأنه لم ينبس بكلمة واحدة عن الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني "وحتى الدنيا منها"، وأظهر القضية وكأنها قضية إنسانية، ألم يلفت نظرك بأنه استخدم في خطابه كلمة فلسطين وأتبعها بغزة، ألم يلفت نظرك أكثر أن شعبنا في غزة تندر في موزة وعليها أكثر من زيارة أميرها (وهذا له مغزاه ودلالاته)، فقط لفت نظرك مقاطعة اليسار فتشفيت!!.
خامساً، أما بخصوص الأموال التي ستُغدق على غزة من قطر، لن تكون إلا كما الأموال التي أُغدقت من النظام العربي الرسمي المرتهن والخاضع والتابع (الذي أشبَعّته في مقالات عديدة شتماً وركلاً لا تشفياً)، حتى بعد الانتفاضات العربية الشعبية، على القيادة المتنفذة في منظمة التحرير، لتغير جلدها، وهذا ما حصل. فمال النفط العربي الموجه أمريكياً وصهيونياً، كان وسيبقى عنوان للتركيع وليس لترقيع أهم شارعين في غزة، وبناء مدينة سكنية للاجئين المدمرة بيوتهم على طريق التسكين وصولاً للتوطين، أو بناء مستشفى للأطراف الصناعية أخشى أن تكون مأوى لمن سَتُقطع أطرافهم بخلاف. وأذكرك ببعض التاريخ بأن فتح أكبر الشوارع وما تبعه من توسيع كان في عهد الاحتلال الصهيوني، بسبب العمليات البطولية التي نفذوها أبطال من تريد التشفي منهم، قبل أن يستحضروك للنور، وجرى ذلك بأوامر مباشرة من شارون في حينه، كما أن الاحتلال ذاته بنى مدارس ومستشفيات ولكن على طريقته ووفق أهدافه، وأموال الدول المانحة لسلطة الحكم الذاتي، بنت وأهلّت مدارس ومؤسسات وشوارع ومستشفيات... ولكن لا أحد يدفع دون فاتورة ثمنها تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا، فهل تشفيت؟؟ لذلك احفظ تشفيك حتى الارتواء لأن السياسة القادمة هي لعبة فن الارتماء في أحضان الأمراء.
وفي المقالة الثانية، يصب الصواف جام غضبه على الجبهة، والتي كان مطلبها هو تأكيد أو نفي صحة اللقاء، فكان حري "برئيس التحرير المهني"، أن يلتقط ذلك لا أن يكتب مقالاً افتتاحياً بجرعة دسمة من الاتهامات والتشويهات التي ما فتئت كُلاً من جريدتي فلسطين والرسالة المحسوبتين على حركة حماس، من الهجوم على اليسار وتحديداً الجبهة الشعبية "كل ما حك الكوز في الجرة وأحيانا دون أن يُحك". وننشد قصائد المديح حين الالتقاء أو التوافق السياسي هنا، هل فعلاً السياسة بلا أخلاق حتى مع الفرقاء السياسيين الذين يفترض أن يكونوا "رواد حركة التحرر الوطني الفلسطيني"؟؟، وعلى ماذا ستنبري الأقلام لو ثبت مستقبلاً صحة ما ورد؟؟.
إن أحد مأساة العقل السياسي الفلسطيني، أنه يحب أن يعيش في التهويمات السياسية، أو التعويمات السياسية، ليخفي تحت قشورها ابتذال السياسة حد التعاسة.
فالحديث عن الإستراتيجية والثوابت والوقف نفته حقائق ووثائق الواقع، في اتفاق مكة، ووثيقة الوفاق الوطني (وثيقة الأسرى)، واتفاقية المصالحة في مصر 2011، وبتفويض مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس، لعباس بالتفاوض لمدة عام (لا أعرف إن انتهت الصلاحية/المدة أم لا)، وقبوله في دوحة قطر القاعدة، برئاسة عباس بما يمثل نهجاً وسياسة ووظيفة، لوزارة المصالحة، وبالقبول بالدولة الفلسطينية على حدود ال 67، (فأرض الوقف فقهياً لا يجوز شرعاً التفريط فيها أو بجزء أو حتى بشبر منها)، وطرح هدنة طويلة الأمد تهدف لالتقاط الأنفاس في تفسير مبتذل للناس، وقبول الهدنة والتقيد بتنفيذها بعد الحسم في غزة، وغيرها الكثير مما يقال.
أما لغة السيد والعبد لا يقبلها الأحرار بل تخضع لها الرعية، وأعود إلى مجدداً إلى غسان ملاذنا الأخير حين نريد أن نستبين الغث من الثمين، لنتمعن في قوله "أن الكفاح الفلسطيني لن يكون مجدياً، إلا إذا كان كفاح مواطنين حررت إراداتهم وعقولهم". فتحرير الإرادة والعقول هي من تمنح صاحبها جرأة قول الحق ولو أمام سلطان/أمير جائر، وهي التي تبقي الحقوق متأصلة بين دفائن العقول والأفئدة، لبعثها كاملة لا ناقصة. هنا يصبح لا فرق بين السكر السياسي والقتل باسم السياسة والوطن وهذا ما لم ولن يفعله اليسار/الجبهة.
ولكي يبقى بريق اليسار لامعاً فكراً وممارسة، لا بد من أن يستعيد أدوات استنهاض الذات، وشحذ الهمم، ورص الصفوف، مُتجذراً بفكره، مُجدداً، مُبدعاً، خلاقاً، مُجتهداً، يمسك بالحاضر وعينيه صوب المستقبل (فلا تُرمى بالحجارة سوى الأشجار المثمرة ولو ذبل بعض فروعها/أغصانها).
وأختم، ما بدأت أن على عباس أن يحفظ ما قاله، لأنه لن يحلم أن يتحقق، وعلى الحمامي والصواف وغيرهم أن يحفظوا ما خطته أقلامهم وتفوهت به ألسنتهم، فقد لا تسعفهم الكلمات لاحقاً.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت