الفلسطينيون بين مطرقة الخارج وسندان الداخل

بقلم: إبراهيم أبراش


الفلسطيني يصبح أسير المكان والتوازنات والمعادلات السياسية حيث يعيش ،فبالإضافة لمعاناة الاحتلال من استيطان واعتقالات وحصار في الداخل ووسط انشغاله بالانقسام وتداعياته، دهمته حالة عربية متصدعة ومتطاحنة يسعى كل طرف فيها لتحميل الفلسطينيين مسؤولية ما يجري في بلدانهم . إن كانت هناك شبهة انحياز لطرف دفَّعه الطرف الآخر ثمن انحيازه بل قد يحمله مسؤولية كل ما يجري من فوضى وتحريض في البلد ،وإن التزم الحياد فحياده انحياز أيضا لأن الحياد سيفسره كل طرف من طرفي المعادلة بأنه موقف غير أخلاقي ونكران للجميل . هذا هو حال الفلسطينيين ومعاناتهم في كل الأقطار العربية وخصوصا التي تشهد اضطرابات وثورات كسوريا ومصر .

المكان والأيديولوجيا كانا وما زالا عبئا وخطرا على الفلسطينيين وخصوصا المثقفين بما لا يقل عن الاحتلال ،ودوما لعبا دورا في توجيه السلوك العام وتأطير مخرجات الخطاب والمُنتج الثقافي الفلسطيني بما هو دون المطلوب وطنيا وبما يسيء للمثقف الفلسطيني نفسه،لأن فلسطينية المثقف لا تتأتى إلا من حريته في التعبير عن رأيه باستقلالية متحررا من سطوة مكان مُكره على العيش فيه ،وأيديولوجية مُكره على مسايرتها،وسلطة تساومه على قوت يومه وحريته.

لأن الحرية هي الرئة التي يتنفس منها المثقف وكل صاحب رأي حر ، وحيث أن حرية المثقف الفلسطيني محجور عليها من مصادر خارجية متعددة تضاف للحجر المُستمد من الرادع الذاتي، كل ذلك أنتج ثقافة وسلوكيات مأزومة ،حيث تغيب المشاريع الفكرية والثقافية الكبيرة ويتناقص عدد المثقفين والكتاب الكبار - مع الاحترام لمن ما زال يناضل ثقافيا بما هو متاح - ويتداخل الثقافي مع السياسي حيث المثقف يصبح سياسيا حتى وإن لم يشأ ذلك،ويركب رجال دين أشباه أميين موجة الثقافة والسياسة فيفتون دينيا بدون فقه الدين ويحللون سياسيا بدون دراية بعلم السياسة ،فيسيئون للدين والسياسة معا.

أضيفت تداعيات الخارج السلبية إلى مشاكل الداخل المأساوية لتشكل مشهدا سياسيا فلسطينيا يتسم بـ : انهيار في منظومة القيم الثورية والاجتماعية ،ضعف في المؤسسات ،ترسخ متزايد للانقسام ،قدرية سياسية تتفاقم ، تيه سياسي يتعاظم،قمع لحرية الرأي والتعبير يدفع لصمت أبلغ من الكلام المباح ، وحضور ضاغط وقاهر للجغرافيا والايدولوجيا .

ما يشبه التراجيديا أصبحت العلاقة بين المثقف (كل مثقف فلسطيني سياسي والعكس ليس صحيحا) والمتلقي والسلطة والمكان ،لأن مفاهيم الحرية و المثقف و السلطة تتشكل في إطار خصوصية فلسطينية خارجة عن المألوف بل والمعقول. فعن أية حرية نتحدث في ظل الاحتلال؟ أية حرية للفلسطيني في بلاد عرب تعتبر صمت الفلسطيني شبهة وكلامه تحريض؟ وهل من سلطة وطنية سياسية بدون سيادة ؟ وأية كرامة لمثقف وهو يُقمع من أجهزة امن تزعم أنها وطنية؟. واقع الاحتلال والجغرافيا والايدولوجيا السياسية وحتى الاقتصاد السياسي،كلها محددات ترسم حدودا وتضع قيودا على حرية الكلام وتؤطر المجال المتاح للحرية بسياج، المساس به يؤدي للتهلكة،سياج يحرسه الاحتلال ،وتسلط سلطات من بني جلدتنا ، وثقافة مجتمعية سوطها أشد فتكا من سوط السلطة .

في الحقل السياسي الفلسطيني محاذير الجرأة على الكلام كثيرة ومتعددة بسبب تعدد السلطات التي يخضع لها المواطن الفلسطيني وبتعدد أماكن إقامته وبسبب تشابك الأطراف التي تلعب في القضية الفلسطينية وتتحكم في مصدر رزق الفلسطيني وجواز سفره وفي حريته وحرية أبنائه وحقهم في التعليم والعلاج والسفر الخ.

الوضع المأساوي للفلسطينيين في سوريا وفي غيرها من الدول التي دهمتها أحداث سُميت (الربيع العربي ) يجب أن لا يغطي على الوضع المأساوي للفلسطينيين داخل فلسطين حيث يتعرضون لمعاناة مزدوجة أو متعددة المصادر ،معاناة الاحتلال والاستيطان والتهويد والإذلال والحصار ،ومعاناة من سلطتين فلسطينيتين – مع اختلاف في نوعية ودرجة المعاناة في الحالتين- ،كيف لا و في سابقة تاريخية تحولت الحركة الوطنية الثورية الفدائية ثم الجهادية الفلسطينية إلى سلطتين استبداديتين بواجهة ديمقراطية زائفة ،أضيفتا لسلطة الاحتلال و أنتجتا ثقافة خوف وقهر وارتزاق بدلا من أن تنتجا الحرية والاستقلال للشعب.

السلطة في غزة وفي الضفة من حيث نظرتهما للحريات العامة وعلاقتهما بالمعارضة تشتغلان وكأنهما خارج التاريخ ، سلوكياتهما تُعيدانا لزمن السلطة السياسية العربية قبل أربعة عقود، أي في زمن القمع والتخلف والاستبداد السياسي،حيث إغلاق المؤسسات الأهلية ومصادرة المطبوعات ومطاردة الأغنية الوطنية واعتقال الناس بسبب معتقداتهم وانتمائهم السياسي بل ومطاردتهم بسبب تغريدة أو ملاحظة على موقع للتواصل الاجتماعي. بات الشعب الفلسطيني والمثقف خصوصا واقعا تحت إرهاب وقمع ثلاثي المصدر:إرهاب الاحتلال العنصري الصهيوني ،وقمع سلطة وأجهزة امن فلسطينية ،وثقافة خوف وعنف تسود المجتمع، في ظل هيمنة ثقافة الخوف والشك حتى بأقرب الناس ،وفي ظل وجود حكومة في غزة قرارها ليس بيدها و تقوم بدور وظيفي لأطراف خارجية أكثر من قيامها بدور وطني،و حكومة مفروضة بقوة الممول الخارجي ومتحكمة بأرزاق البشر في الضفة،فمَن يجرؤ على الكلام دون أن يتحسس رأسه ؟.

في الضفة يمكن للمواطنين والمثقفين أن ينتقدوا ما تمارسه حركة حماس في غزة ولكن عليهم الحذر في انتقادهم رموز السلطة أو خروجهم في متظاهرات ضد سياساتها ،وفي غزة يمكن للمواطنين والمثقفين أن ينتقدوا السلطة في الضفة ويخونها ويصفونها بأقذع الصفات، ولكن انتقادهم حركة حماس وحكومتها بل وحلفاءها من الإسلام السياسي وشيوخهم يعتبر خطا أحمرا ممنوع تجاوزه لأنه في نظرهم انتقاد لمقدسات .

في جميع الحالات فالمثقف والمعارض السياسي وكل صاحب رأي مستقل،محاصر ولا يجرؤ على الكلام إلا ضمن حدود ، ليست حدود الالتزام الوطني أو الالتزام بمقتضيات العقل والمنطق ،بل الحدود التي ترسمها السلطتان،وإن تكلم فعليه أن يتحمل مسؤولية كلامه وقد دفع كثيرون من صحفيين وأكاديميين ومواطنون ثمنا لأنهم جرؤوا على الكلام بما لا يرضي الحاكم بأمره. سلطتا الأمر الواقع في الضفة وغزة تريدان من المثقف أن يكون كما وصف ابن المقفع حال مثقفي عصره : " تعلمهم وأنت تريهم أنك تتعلم منهم، وتؤدبهم وكأنهم يؤدبوك،تشكرهم ولا تكلفهم الشكر، بصيرا بأهوائهم، مؤثرا لمنافعهم، ذليلا إن ظلموك، راضيا إن أسخطوك. وإلا فالحذر منهم كل الحذر".

في ظل حكومتين وسلطتين تُسقطان عجزهما ودونيتهما أمام إسرائيل على الشعب وفي زمن تلاشت فيه الحدود بين المقدس وغير المقدس وباتت فيه الثوابت الوطنية معروضة للبيع والمساومة في سوق النخاسة السياسية يصبح الصمت خيانة والجهر بالرأي واجبا وطنيا ونحتاج لثورة فكرية ثقافية تؤسس لحالة تمرد على ثقافة العبودية التي تفرضها سلطتان أصبحتا معيقتين للمشروع الوطني التحرري . ثورة فكرية ثقافية بأدوات شعبية تواجه سلطتي الأمر الواقع بالأسئلة المسكوت عنها من كثير من المثقفين بسبب ثقافة الخوف التي تكبلهم أو خوفا على فقدان منافع ومواقع تمنحهم إياها السلطة وليس من السهل تعويضها .

نعم ، نحن بأمس الحاجة للخروج من حالة التسطيح الفكري والميوعة الثقافية والخطاب السياسي حمال ألأوجه ، إلى طرح الأسئلة المقلقة والمحرجة ،كالقول للسلطة في الضفة الغربية بان التنسيق الأمني لم يخلق أمناً للمواطن الفلسطيني بقدر ما خلق أمنا للمحتل الصهيوني وخلق ظروفاً مناسبة لاستمرار الاستيطان وتبييض وجه الاحتلال، و أن العودة للمفاوضات بدون وقف الاستيطان يعتبر بمثابة شرعنة للاستيطان ،وأن منظمة التحرير باتت شاهد زور على ما يجري وان نخبة مصالح ضيقة هي صاحبة الأمر والنهي في الضفة وفي مستقبل القصية الوطنية ،و أن الرواتب تحولت إلى لعنة باتت تكمم أفواه المواطنين وتدفعهم للصمت على ما تقوم به السلطة من تجاوزات ،وان الرواتب والامتيازات كممت أفواه أعضاء اللجنة التنفيذية للمنظمة واللجنة المركزية لحركة فتح الذين تنكروا لتاريخهم النضالي وللأمانة الملقاة على عاتقهم وباتوا شهود زور على جريمة التلاعب بمصير الشعب والوطن،وان القرار الوطني الفلسطيني بات يُطبخ في غرف مغلقة ومن طرف قلة غير منتخبة من الشعب ولا تعبر عن التوافق الوطني.

وفي المقابل نحتاج لثورة فكرية ثقافية تواجه ثقافة الخوف في قطاع غزة حيث يتم فرض نظام شمولي لحزب واحد يطبق على أنفاس المواطنين،وحيث تجري عملية تحويل القطاع والقضية الوطنية لحقل تجارب لمشاريع وأجندة خارجية،ثورة تقول لحركة حماس بأن مراهنتها على الإخوان المسلمين وجماعات الإسلام السياسي أكثر من مراهنتها على الشعب الفلسطيني قد أوصلتها إلى ما هي عليه من مأزق ،وأن استمرار تأكيدها بأنها امتداد لجماعة الإخوان المسلمين وبالتالي انحيازها للجماعة قد ادخل الفلسطينيين في دوامة الحرب الأهلية في مصر وغيرها من البلدان ، ويجب القول لحركة حماس إن توقيع هدنة رسمية مع العدو إرضاء للرئيس مرسي وجماعة الإخوان وحفاظا على سلطة هزيلة في غزة بينما القدس والضفة وكل فلسطين تحت الاحتلال هو خطئ استراتيجي ، ولماذا كان القول بعبثية الصواريخ خيانة وطنية فيما يصبح إطلاق الصواريخ اليوم عملا غير وطني وتصدر فتاوى تحرم انتهاك الهدنة؟ ولماذا عاد جو الخوف والتوتر وانتشار الجريمة إلى قطاع غزة؟ و إلى متى ستبقى حركة حماس متفردة بالسلطة في قطاع غزة بعد أن انتهت شرعيتها الانتخابية وأنهت بنفسها من خلال الهدنة مع إسرائيل شرعيتها المستمدة من كونها حركة المقاومة ؟ . من يجرؤ على القول أخيراً بأن حالة العجز عند طرفي المعادلة – سلطة غزة وسلطة الضفة- تؤسس لمصالحة ضمنية على إدارة الانقسام و على محاصصة لتقاسم سلطة هزيلة منحتها لهم إسرائيل على ما تبقى من شعب على ما تبقى من أرض؟.

نخلص إلى القول بأن خوفا ينتابنا بأن المثقفين وكل أصاحب الرأي الحر الذين يعيشون تحت سلطة الاحتلال وسلطتي الأمر الواقع في غزة والضفة، سيواجهون محنة شديدة وقد يُقدمون كقرابين على مذبح مصالحة إدارة الانقسام التي تحيكها سلطتا غزة والضفة اللتان تطبقان نظرية نهاية التاريخ على التاريخ النضالي الفلسطيني ،وعلى مذبح تسوية قادمة تحاك بصمت. ونخشى أن هناك من يريد أن يدخلنا في زمن ينطبق عليه قول الشّيخ محي الدّين ابن عربي : "هذا زمن السّكوت وملازمة البيوت والاقتصار على القوت والتّوكل على الحيّ الذّي لا يموت" ،ولكن هيهات فتاريخ الشعب الفلسطيني سيسقط هذه المراهنات ويا ليت الحكومتان تأخذان العبرة مما يجري في العالم العربي من حولهم.

‏18‏/08‏/2013


جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت