بعد أن إنجلى غبار الإنتخابات المحلية وتبدد الضباب ، لا بد من وقفة متأنية شاخصة لاستقراء النتائج التي افرزتها واستخلاص العبر منها . فقد ازالت هذه الانتخابات القناع ، وأماطت اللثام ، وكشفت حقيقة وجه مجتمعنا ، وأبرزت بشكل مركز جداً كل العاهات والآفات الاجتماعية والتربوية والأخلاقية ، التي تنخر في جسد وعظام هذا المجتمع ، واحدثت هزة عنيفة وقوية في المبنى السياسي والاجتماعي له.
لقد انتصرت العائلية والطائفية والشخصنة والمحسوبيات والبلطجية والعنف الكلامي والمال السياسي ، وهزمت الأحزاب السياسية والوطنية وتقهقرت ، وفشل الخطاب السياسي نتيجة غياب مقومات الاستمرار والتواصل مع الناس والارتباط بالهموم الشعبية والاندماج بقضايا وآلام الجماهير . وتعرض التيار اليساري التقدمي ممثلاً بالجبهة الديمقراطية والحزب الشيوعي لضربة موجعة ومؤلمة في الصدر ، ولأكبر هزة انتخابية ، هي من اعنف الهزات التي تعرضت لها الجبهة عبر تاريخها منذ اقامتها في منتصف السبعينات ، بعد سنوات من النضال وتحقيق الانتصارات في عدد كبير من القرى والبلدات والمدن العربية ، حيث فقدت صدارتها وخسرت مواقعها ومعاقلها الرئيسية في الناصرة وطمرة وسخنين وعرابة وعيلبون وكفر قاسم ودير الاسد والبعنة الحمراء وغيرها ، ولم يبقَ بيديها سوى مجلس يافة الناصرة .
ان انحسار وانهيار الأحزاب السياسية لدليل واضح وجلي على الأزمة الفكرية والردة الاجتماعية التي يعيشها مجتمعنا في العقدين الأخيرين ، وتتمثل بتراجع الفكر السياسي والايديولوجي ، وغياب الثقافة الحزبية والتثقيف السياسي ، ونكوص الوعي الطبقي والعمالي ، واختلاط المفاهيم ، وتغير المعايير والمقاييس والمعادلات التي كانت سائدة ، عدا عن اندثار القيم وتراجع الأخلاق ، واللهاث الغريب وراء السلطة والكرسي والمنصب والمال والجاه ، فأصبح كل واحد يبحث عن المصلحة الشخصية والذاتية ولا يلتفت الى المصلحة العامة ، ولا للمبادئ والبرامج والاجندة السياسية ، ولا للقيم الوطنية التي تربينا عليها، وكانت في يوم من الأيام هادياً ومرشداً ونبراساً وسلاحاً في حياتنا .
ومن الواضح ان الكثير من المصوتين باتوا يعتمدون ،ولللأسف ،على الخلفية العائلية والحمائلية والطائفية للمرشح الذي سيقود المجلس المحلي أو البلدي ، ولا يتم الانتخاب وفق معايير تستند الى الكفاءات والمؤهلات والاجندات والخلفية السياسية والفكرية ، وذلك لادارة المجلس والنهوض بمسيرة التقدم والتغيير والتطوير والتعمير في البلد .
ان عدم قدرة الأحزاب والقيادات السياسية في اجراء الاصلاحات الجذرية العميقة واحداث التغيير في حياة الناس على المستوى المحلي وخدمة المواطن ، وفي مجال البنى التحتية والمشاريع العامة ، واعتمادها المحسوبيات في مسألة التعيينات ، كل ذلك أدى وقاد الى نزع الثقة من القيادات السياسية والحزبية والتخلص منها ، ودعم وايصال مرشحين جدد ، لعل وعسى أن يكونواعلى قدر المسؤولية وينجحوا في تلبية رغباتهم وأحلامهم ومطالبهم في التطور واحداث التغيير المبتغى والمرتجى .
علينا أن نعترف بأن الانتخابات المحلية الأخيرة حملت في طياتها الكثير من الدلالات والمؤشرات السلبية ، واستخدمت خلالها أساليب الاحتواء والاقصاء وعدم قبول الآخر ، فضلاً عن التنازل والتخلي عن القيم والمبادئ والقناعات وتزوير ارادة الناخب بالرشوة وشراء الأصوت والذمم وتقديم الخراف سبيلاً للوصول الى رئاسة السلطة المحلية . زد على ذلك تغييب دور وصوت المرأة وتمثيلها المتقدم في القوائم الانتخابية ، رغم تزيينها ببعض الأسماء والوجوه النسوية .
ومع انتشار العصبية العائلية والطائفية والاستقطاب العشائري والحمائلي أفرغت الاطر الحزبية والسياسية من مضامينها الفكرية، وازداد الصراع على المناصب والمواقع والغنائم ، وتعمق العنف في حسم الصراع والمنافسة ، وتحول الاطار هدفاً أكثر من البرنامج بهدف الحصول على المركز والمنصب.
انني أقولها بكل وضوح وصراحة مؤلمة أن المبنى السياسي العام في مجتمعنا في خطر ، بعد ان دخل في غيبوبة واصابته جلطة عميقة وحادة ، وأحد أعراضها التمزق الداخلي ، والتخلي عن القيم ، وانهيار الاحزاب وسقوطها واندحارها . وإنها لفرصة الآن أمام الجبهة الديمقراطية وبقية الأطر الحزبية والقوى السياسية والمدنية مواجهة النتائج على حقيقتها ، وجعلها فرصة لفحص البيت وحساب النفس والذات والمراجعة النقدية سعياً للتصحيح وتصويب المسيرة ، واستخلاص العبر والدروس واعادة ترتيب الاوراق والتشكيل الحزبي وتجديده ، والالتصاق أكثر بالجماهير والناس، والاصغاء لنبض الشارع ، استعداداً للمرحلة الجديدة القادمة .