المصالحة الفلسطينية: هل هي ممكنة؟

بقلم: هاني المصري

هل من الممكن التوصل إلى مصالحة تاريخيّة بين الحركات الإسلاميّة والوطنيّة الفلسطينيّة؟
هذا هو السؤال المركزي الذي حاول مؤتمر مركز "مسارات" الإجابة عنه. ما يفرق بين الحركات الإسلاميّة والوطنيّة خلافات لها أول وليس لها آخر، تبدأ بالسلطة والمنظمة والقضايا الداخليّة، ولا تنتهي بالأبعاد الأيديولوجيّة والارتباطات والتأثيرات الخارجيّة.
في هذا السياق، نجد أن كل الأطراف الفلسطينيّة على علاقات تحالفيّة متنوعة مع أطراف عربيّة وإقليميّة ودوليّة، لا يمكن رؤية الوضع الفلسطيني من دون رؤية تأثيراتها الواضحة. كما أن الانقسام الفلسطيني يجعل تأثير العوامل الخارجيّة أقوى بكثير.
بدايةً، من الطبيعي التنويه إلى أن المشاركة المذكورة ليست ممكنة مع جميع الحركات الإسلاميّة، بل هناك جماعات مثل "حزب التحرير" أو التنظيمات المشابهة أو التي تشكل امتداداً لـ"القاعدة" أو مثيلاتها ممن لا يمكن المشاركة معها، لأنها لا تؤمن بنسبيّة الاجتهاد، وتعتبر وجهة نظرها مطلقة الصحة، وتكفّر وتخوّن الحركات الأخرى، حتى الإسلاميّة منها.
برغم صعوبة المشاركة، إلا أن العامل الأساسي الذي يدفع نحوها يتمثل بكونها ضرورة للتحرر ولهزيمة المشروع الصهيوني الاستعماري العنصري الذي لا يزال مفتوحًا، ويسعى لمواصلة تطبيق أهدافه التوسعيّة والعدوانيّة، ولا يفرق جوهريًا ما بين الحركات الإسلاميّة والوطنيّة، فهو يستهدف الجميع من دون استثناء.
الاتجاة المركزي الحاكم حاليًا في إسرائيل والمرشح للاستمرار لوقت طويل، يعتبر أن "حماس" و"الجهاد" يمارسان الاٍرهاب العسكري، فيما الرئيس عباس و"فتح" وبقيّة فصائل "منظمة التحرير" يمارسون الاٍرهاب السياسي والديبلوماسي. لذلك لم تصل المفاوضات إلى تسوية، ولن تصل إليها في ظل موازين القوى القائمة والانحياز الأميركي لإسرائيل والعجز الدولي، ما يجعل الطريق الوحيد أمام الفلسطينيين على اختلاف ألوانهم وتنظيماتهم هو الوحدة على برنامج مشترك.
أما العامل الثاني الذي يدفع إلى الوحدة، فهو أن الحركات الوطنيّة والإسلاميّة جربت السير منفردة ووصلت إلى حائط مسدود، فلا طريق المفاوضات الثنائيّة كطريق وحيد أو رئيسي أوصل الفلسطينيين إلى تحقيق الحد الأدنى من حقوقهم، بل انتهى بهم إلى الكارثة، ولا طريق المقاومة المسلحة كطريق وحيد أو رئيسي أوصلهم إلى التحرير، بل إلى الجمع المستحيل بين السلطة والمقاومة، وتحوّل المقاومة إلى أداة لخدمة الحفاظ على السلطة والدفاع عنها أكثر مما هي إستراتيجيّة للتحرير.
الحل لا يكمن في الجمع التعسفي بين برنامج المفاوضات والمقاومة، ولا في المحاصصة بين الفريقين، بل في التوصل إلى برنامج وطني مشترك يجسد الحقوق الفلسطينيّة ويعبر عن إرادة غالبية الشعب الفلسطيني في أماكن تواجده كلها، ويجسّد التعدديّة والمشاركة الحقيقيّة.
تأسيسًا على ما سبق، فإن مسيرة الفلسطينيين، خصوصاً منذ العام 2005، بينت إمكانيّة للتوصل إلى وحدة وطنيّة بين "فتح" والمنظمة من جهة و"حماس" و"الجهاد" من جهة أخرى، بدليل أنهم منذ ذلك التاريخ شرعوا في حوار، وتوصلوا إلى وثائق وطنيّة عدة من "إعلان القاهرة" 2005، مرورًا بوثيقة الوفاق الوطني، وانتهاءً باتفاق المصالحة 2011. وهذا يظهر أن ما يجمعهم أكثر مما يفرقهم، لدرجة أن الخلاف على البرنامج السياسي في المرحلة الراهنة، على أهميته، لم يعد الموضوع الأهم، بل إن الصراع على القيادة والسلطة والتمثيل والقرار والاعتراف أصبح يطغى على أي شيء آخر.
ستتحقق الوحدة ضمن عمليّة تاريخيّة طويلة تتقدم إلى الأمام أو تتراجع إلى الخلف وفقًا للمتغيرات العاصفة ومدى استجابة الأطراف الفلسطينيّة والخارجيّة. ويمكن أن تشمل هذه العمليّة نوعًا من إدارة الانقسام بالتوازي مع الشروع في حوارات رسميّة وغير رسميّة حول القضايا الإستراتيجيّة.
ما ينقص الحوار الذي تم حتى الآن أنه أجّل إلى فترة قريبة عددًا من أهم القضايا، وأن الإرادة لتطبيق ما تم الاتفاق عليه ليست كافية، ما يوجب تبلور ضغوط سياسيّة وشعبيّة متصاعدة لفرض إرادة الشعب الفلسطيني على الأطراف المتنازعة.
وما يدل على إمكانيّة الوحدة توصل مجموعة من الشخصيات في العام 2008 إلى ما أطلق عليه اسم "ركائز المصلحة الوطنيّة العليا"، وهي بعد ست سنوات من التوصل إليها لا تزال صالحة كأساس يمكن البناء عليه لبلورة ميثاق وطني جديد، يستند إلى الحقوق الطبيعيّة والتاريخيّة والكفاح الوطني المستمر منذ أكثر من مئة عام، وإلى الوثائق الوطنيّة المقرة، ويستوعب الحقائق الجديدة والخبرات المستفادة.
لقد أرادت "فتح" الاستمرار بقيادة الشعب الفلسطيني وحدها وإلحاق الحركات الإسلاميّة في "منظمة التحرير" مثلما فعلت سابقًا مع الفصائل الأخرى وفشلت، ما جعلها تفكر بفتح طريق الوحدة، ولكن تحت قيادتها، غير مدركة أن "فتح" الآن ليست "فتح" الانطلاقة، والمنظمة منذ "أوسلو" في حالة شلل. كما أن الأوضاع العربيّة والإقليميّة والدوليّة ليست كما كانت أيام التضامن العربي والحرب الباردة.
ولقد أرادت "حماس" أن تنشأ منظمة تحرير جديدة أو بديلة وفشلت، ثم قررت الدخول إلى المنظمة للسيطرة عليها وحدها وفشلت كذلك. ما يعني أن طريق النجاة لها هو الاستعداد للمشاركة والانضواء تحت مظلة "منظمة التحرير"، خصوصًا في ظل التهديدات والمخاطر التي تتعرض لها بعد التطورات الإقليميّة الأخيرة إثر سقوط حكم جماعة "الإخوان المسلمين" في مصر.
بعد انخراط "حماس" و"الجهاد" في الكفاح الوطني، أصبح للحركات الإسلاميّة وزن مهم لا يمكن تجاوزه، ولا يمكن معه أن تكون ملحقًا وإنما شريكًا كاملاً، وهذا من حقها، ولكن ذلك يفرض عليها تقديم ما يثبت احترامها لأسس الشراكة، كإقامة مسافة بينها وبين امتداداتها الإقليميّة ("الإخوان المسلمين") واحترام قيم التعدديّة والمساواة.
كما أن المطلوب من "منظمة التحرير" أن تتغير وتبتعد عن المحاور العربيّة والإقليميّة، وتتسع لمشاركة حقيقيّة للفصائل التي تنتمي إليها، وللحركات الإسلاميّة وبقيّة قوى وقطاعات وفعاليات الشعب، بما في ذلك المرأة والشباب. فالمنظمة عانت حتى في أيام النهوض الوطني من الهيمنة والتفرد والمحاصصة، علماً أن ما قلل من التأثير الضار لهذه المسائل أن "فتح" كانت لها غالبية ثابتة ومستقرة إلى حد كبير.
إن خصوصيّة القضيّة الفلسطينيّة وكونها عاملًا موحدًا للعرب والمسلمين والأحرار في العالم كله، تستوجب أن ينأى الفلسطينيون بأنفسهم عن التجاذبات والصراعات العربيّة والإقليميّة، لأن قضيتهم بحاجة إلى الجميع، وقادرة على الحصول على دعم الجميع إذا ما انضوت القوى الفلسطينيّة في مؤسسة وطنيّة جامعة، وعلى أساس ميثاق وطني واحد، وبرنامج سياسي يجسد القواسم المشتركة وينظم إدارة الخلافات.