لا يختلف اثنان على ان المشهد الثقافي والابداعي في بلادنا قد تراجع في العقدين الأخيرين، وصار ملحقاً وتابعا للسياسي منقادا له دون التأثير فيه، وكأن الكتاب والمبدعين سلموا تماما لتهميشهم من السياسي، أو كأنهم أسهموا في تهميش انفسهم بانفسهم من خلال القبول بدور ثانوي ضعيف محصور في بعض الحلقات والصالونات المعزولة عمّا يجري ويدور على الارض الفلسطينية. لماذا يقبل ويرضى المثقفون بحشر انفسهم او حشرهم من قبل السياسي في مربع ضيق لا حول له ولا قوة؟. ولماذا لم يعد دورهم كما كان مؤثراً في مراحل سابقة من عمر القضية الفلسطينية؟
كان الثقافي يشكل ندا للسياسي، لكنه لا يتناحر مع دوره، بل يتكاملا او يدخلا في علاقة جدلية تبادله، يقويه، يدعمه، يرفع من سقفه. وكلما هبط او تراخى. كان ينير له الطريق ويعمق رؤياه وتوجهااته ويذكرّه بالاستراتيجي لحظة انغماس السياسي وتشظيه في المرحلي او اليومي.
كانت قصيدة أبي سلمى او معين بسسو او راشد حسين او محمود درويش او سميح القاسم، تضيء درب السياسي وتبدد عتمته وتسلط كشافاتها لتتألق القصيدة في المشهد بمضمونها العميق ورؤياها الإبداعية والثقافية والسياسية والمفاهيمية الوطنية، وكانت قصة او رواية غسان كنفاني وجبرا ابراهيم جبرا ورشاد ابو شاور ومحمود شقير وغريب عسقلاني، تقدم للقراء "وجبة" جمالية من جهه، وفكرية وثقافية وتعبوية وتحشيديه واستشرافية من جهه اخرى، فتغذي الجمال فينا وتجعل من رؤية السياسي أكثر وضوحا واكثر تكاملاً.
ما زال بيننا من يبذل جهداً ويحاول اعادة الاعتبار للثقافي والإبداعي، لكن ذلك على أهميتة لم يوقف التراجع ولم يخرج الإبداعي من مربع التقهقر، لكن صمود بعض الأصوات في الساحة، من شأنه ان يمهد الطريق للبناء على ما أُنجز، لعل فريق الصامدين الحريصين على عودة قوية للمشهد يتسنى لهم تحقيق الهدف. ومن الأسماء التي لم تصمت محاولات اصحابها في هذه المرحلة، اذكر على سبيل المثال لا الحصر: الشاعر مراد السوداني الامين العام لاتحاد الكتاب والادباء والنائب الثاني لاتحاد الكتاب العرب والشاعر المتوكل طه والروائي المثابر المتميز أحمد رفيق عوض والشاعر عبد الناصر صالح والكاتب المخضرم محمود شقير والناقد د. عادل الأسطه والمفكر د.عادل سمارة والقاص زياد خداش والشاعرة مليحة المسلماني والشاعرة أنيسة درويش والباحث جهاد صالح الذي انتج عدداً من الاعمال الموسوعية المهمة والروائي صالح ابو لبن والناقد والكاتب وليد ابو بكر والناقد نبيه القاسم والروائي صافي صافي والكاتب والناقد ابراهيم جوهر والكاتبة عائشة عوده والقاص ناجي ظاهر وغيرهم، حيث لا اريد ان استطرد اكثر في تعداد الأسماء، لأن هناك فريقاً موجوداً وينتج، لكنه لم يستطع بعد لأسباب ذاتيه وموضوعية إعادة الاعتبار للمشهد. وعلينا ان نعترف أن الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين نجح في الأعوام الأخيرة في مد جسر مهم بين الكتاب الفلسطينيين في كل المساحات والكتاب العرب بشكل عام، غير ان ما تحقق لم يحول الإمكانية المتوافرة إلى واقع مشهدي ثقافي إبداعي، قادر على التحرك في كل الاتجاهات وفرض نفسه فعلاً وتأثيراً وجدلاً مع السياسي الفلسطيني والعربي.
كما أن مركز ابو جهاد لشؤون الحركة الأسيرة كان له اسهاماته الواضحة في توثيق وتأصيل التجارب الثقافية والابداعية للاسرى القابعين خلف القضبان والأسرى المحررين. ولأن على رأس هيئة شؤون الأسرى والمحررين كاتب وشاعر ومثقف فقد اولي اهتماما بالثقافي والإبداعي، حيث حقق عدداً من الانجازات على هذا الصعيد.
الا ان ما تم انجازه حتى الآن من خلال الشواهد التي ذكرت ما زال يفتقر الى التكاملية والتناغم بين المؤسسات المعنية كافة، في ظل ضعف التواصل بين المثقفين والمبدعين، الذين تتصف علاقاتهم بالموسمية والحساسية والتنافس الذي يصل في كثير من الأحيان حد التنافر والتنكر لانجازات الآخرين في ظل "الفردية" التي تضغط بثقلها على صدورنا في هذه المرحلة.
نحن نحتاج إذن الى كثير من الجهد والعمل المثابر والمبادرات الفردية والجماعية لكي نعيد الاعتبار للثقافي، ونطوره ونعززه ونحافظ على استقلاليته، لنحدث شراكة متكافئة مع السياسي الذي من المفروض ان تعيده الى موقعه الصحيح، ونلجم دوافعه وتجلياته الاستئثارية التفردية والسؤال كيف يمكن تحقيق ذلك؟
في رأيي هناك مجموعة من الخطوط التي يمكن لنا العمل عليها: اولاً التفاف الكتاب والمبدعين حول اتحاد الكتاب واستنهاضه وتحويل العضوية فيه إلى عضوية جدية فاعلة، ليغدو منبراً وساحة فعل للمبدعين الجديين القادرين.
ثانيا- الاستمرار في الحوار وتبادل النتاجات والتلاقح الثقافي على مستوى الكتاب والمبدعين الفلسطينيين، والبناء على ما انجز في السنوات الأخيرة، بناءً منهجياً تكاملياً لا يخضع إلى موسميات العمل أو إلى خطوات محدودة وانتقائية.
ثالثا- تفعيل الصفحات الثقافية في صحفنا، وتخصيص البرامج الثقافية في وكالاتنا الالكترونية وفضائياتنا.
رابعا- لدينا اقلام نقدية، من المفروض ان نخرجها من عزلتها، ونحفزها على المشاركة في اعادة بناء الثقافي والابداعي، وأن نستمع اليها ونستفيد من امكاناتها.
ما ذكرت في هذه العجالة وبما تتسع له المساحة المخصصة لمقال، ليس برنامج عمل ولا يمكن التعامل مع ما قدمت من اقتراحات على انه امساك بكل الحلقات، لأن الإحاطه بالموضوع تتطلب مزيدا من الآراء والنقاشات، لإنضاج رؤية ثقافية ابداعية استنهاضيه.
د. حسن عبدالله