القدس دمعة شمس منسية. في الخامس من يونيو تستعيد ذاكرة الجراح وتنام كمدينة الهزيمة الدائمة التي كلّما حمت ضلعا في صدرها الهش المكشوف خانتها الجهات وغدرت بها الرياح.
إنها المدينة العانس، تأوي إلى حضن جورية ندية، وتحلم، كالمجدلية وكأيائل صهيون، بولادة فجر يندلق كالأماني، لكنها تفيق مع أول السحر لتجد خاصراتها تدميها خناجر الأصحاب والأهل والأعداء.
القدس، يا عرب، مدينة عمياء. قناديلها أطفأها مطر من الكذب أسود ولهاث الشعراء الخلب. وعروس الجبال، يا أيّها الحداة، صارت مثل السماء صمّاء أوقعها صراخ باعة الكلام وهو يلعلع فوق كثبان الصحارى وفي أسواق السبايا والدخان والنار.
لا تواسوها، لا تواعدوها ولا تَرثوها فهي لن تلتفت إليكم، وفي يونيو، وهي الشريدة الشاردة، لن تُعنى أحواشها بكم، فكل طفل وطفلة فيها يعرفون أنكم ليسوا أكثر من "بكاة تمدونها بالعويل والصياح"؛ أتركوها تداري نبض ترابها يسري في عروق نعنعها وحبقاتها ودعوها ترعى صليبها والأهلة فوق قناطرها التي ربّت عليها ضفائرها المقمرة.
إنه يوم ليس ككل أيام القهر في حياة المقدسيين، فآلاف من الإسرائيليين اليمينيين العنصريين يزحفون فيه، وفي كل سنة على وسائد سكانها الباكية، ومنذ انتصرت "ستتهم"،على تقاويم الهجرات والميلاد والقمر، في مهزلة سميّت حربًا، ينقضون على المدينة كجراد أهوج جائع ويدخلونها حانقين يتدافعون في شرايينها كقطعان من الجواميس العطشى. يصرخون ويغنون شاهرين قرونهم وحناجرهم ويرفعون حرابهم لتتمايل على أطرافها إسرائيل المنتصرة، ويرقصون "رقصة الأعلام" على عتبات بيوت أهلها المحاصرين ليستفزوا كبرياء مدينة مهيضة وليذكّروا أهلها: شيوخها، نساءها، شبابها وحتى الرضع بينهم، أن لتلك الشوارع الحزينة أسيادا وأربابا، وعندهم القول الفصل في كل بوابة وباب، ولهم الغناء إن أرادوا وأن شاؤوا لهم البكاء، والقهقهة لهم وعربدة السياط.
كنت في طريقي لحضور اجتماع لإدارة جمعية "يد – بيد"، كنّا قد عيّناه منذ زمن، ومن غير أن ننتبه لما سيخيّم على المدينة في الخامس من يونيو. حركة المركبات مشلولة، وأوردة القدس سدّت بكلس المستوطنين وبغبار بساطيرهم. الأخبار تتناقل قرار قضاة المحكمة العليا الإسرائيلية الذين رفضوا التماسات تقدمت بها جمعيات إسرائيلية ما زالت تؤمن بأن العزة والرفعة في الحياة يجب أن تبقيا للإنسان وكرامته، فتوجهوا مطالبين إلزام منظمي مسيرة العربدة بتغيير مسار مظاهرتهم بحيث لا تخترق ألوفهم الأحياء العربية في البلدة القديمة، لا سيما بعد اعتداءاتهم الخطيرة على البشر والحجر في السنوات الماضية، لافتين إلى أن السنة حددت المسيرة بمواقيت من المتوقع ان تتزامن وتتضارب مع حلول أول يوم في شهر رمضان.
رفض القضاة جميع ادعاءات الملتمسين، فالقدس تاج عزتهم أيضا وسيدة الدهور وذهب السماء الذي لا يفنى، وأضافوا في قرارهم بعض الملاحظات المضحكة المبكية: فلقد أوعزوا للشرطة تقديم موعد بدء المسيرة بربع ساعة كي تنتهي قبل ميعادها بربع ساعة، وكذلك بأن تكون العصي التي سترفع عليها الأعلام الزرقاء البيضاء أقصر مما كانت عليه في السنوات الماضيه وذلك لمنع رافعيها من تحويلها إلى عصي تهوي على من يصادف تلك الجموع من العرب – كما حصل في الماضي، وأكدوا أن على الشرطة منع المشاركين من الهتاف "الموت للعرب" و"ليحرق المسجد". لكن في النهاية، وكما كان متوقعا من محكمة فقدت بصيرتها وتخلصت من روح العقل والمنطق، شكّل قرارها الضوء الأخضر لزرافات من سكارى الغطرسة، وسمحت لهم أن يغزوا شوارع المدينة المزنرة بالعجز والقهر والصبر، ولحناجرهم أن تلقّح الفضاء بطلع كلّه كراهية سينبت حتمًا موتًا مؤجلًا .
بحماية القانون وبمؤازرة ألف من قوى الأمن والشرطة ومشاركة ساسة وقادة، عاشت المدينة بضع ساعات من تيه: أهل المدينة العرب في بيوتهم أسرى ورهائن، وغزاة زاحفون على أسنة الرماح وصكوك كتبت بمداد سفر "القضاة" التوراتي وما حفل به من حكايا وعجائب وأساطير .
عاشت مدينة إيلياء مساءً كله خبل، وحفلت شوارعها بطقوس من السحر المعتق ولّده خيال يفيض بمجازات مستعارة من جحيم شمشونها الجديد، وهو يدردب منتقمًا لعينيه المفقوءتين ويصرخ "عليّ وعلى أعدائي يا رب".
القدس تنهيدة قمر حالمة، في أحشائها توالد التاريخ وأجهض مسوخًا دارسة، لكنها بقيت تؤوي عربًا هم في عرف ورثة ذلك الشمشون ليسوا إلا أحفادًا لأولئك الفلسطينيين الأوائل، وعنهم وعليهم أن يدفعوا الثمن؛ لأن الرب، هكذا تؤمن تلك الآلاف العاصية، ما زال عندهم رب القضاة، وآخرهم كان شمشون الذي قضى وورّثهم النهر بضفتيه والنهم والمعجزة، ولفلسطين العرب حظ أهل الكهف وحكمة سيّافي الأعناق والزهور.
لن تتعرفوا اليوم إلى القدس يا من تعشقونها وأنتم "وشامى"، فنونكم سقطت عند حافات الرذاذ ومع اهتزاز القدود وفي جحيم القبل، ولن تحموها في صلواتكم الديغاتيلـــية السريـعة المكررة كوجبات المسافرين في قطارات المدن البعيدة.
لن تنقذوا أهلها بأدعية جوفاء معلّبة ومبـــهرّة تلوكونها حين تأوون إلى مراتبكم التي من ريش ولحم وشبق وتذهبون إلى نومكم الصاخب حالمين بصهيل " الخرّد الغيد".
القدس عاشت، منذ تقاتل وكلاء السماء على بلاط مذابحها، كزهرة برية وحيدة هجرها الحرّاثون وأهملوها ولم يسقها السقاؤون، فكبرت كعاشقة الدجى الوحشية حتى صار شوكها أبراجًا زرعت كبقايا شهب أزلية في شوارعها، وتناثر زهرها ضلوعًا في صدور أهلها، وعطرها تضوّع كنجمات الفلك، لا يشمّه إلا من يولد في ظل أسوارها، ويتكور في جوفها، أو يكبر على طريق آلامها وفي عتمة سراديب أسواقها .
خففوا عنها من حبكم القاتل كي لا تيأس، فكم حاولتم إرضاعها من أثدائكم الهزلى، فأبت وشربت من عيون ناسها حتى صار الدمع عزة وكرامات، وصمدت المدينة مخيبة أماني الفاتحين حتى لو تملكوا مفاتيحها إلى حين.
ملأتم أشعاركم بطيبها فقاومتم في بحور "الخليل" وانتصرتم نصر البحتري على أطلسه العسّال، وعفّرتم أنوف غزاتها بصياحكم، وادّخرتم ذلك "الصارم المصقولا"، في حين كان أهلها لا يسمعون في جنباتها إلا هسيس الجن، ويصحون على صفير الهراوات تهوي وتسطر أجساد شبابها وشيوخها، لكنهم صمدوا وساروا على هدي حماتها وفرسانها وأميرهم الفيصل/ جرحها المفتوح.
من المؤكد أن الكثيرين لم يقرأوا ما سمح بنشره في الخامس من يونيو الفائت، فبعد ثمان وأربعين سنة كشفت مقاطع جديدة من شهادات جنرالات جيش الاحتلال، نشرتها صحيفة "هآرتس"، وتضمنت تفاصيل محزنة ومؤثرة عمّا دار بينهم من نقاشات قبل وخلال حرب يونيو؛ اللافت أن جميعهم كانوا مجمعين وحاسمين على أن الحرب مقبلة لا محالة، وعلى أنهم سيمحقون جيوش العرب في ضربات ستكون أسرع من قضاء البرق الحارق، فها هو الجنرال عوزي نركيس، فاتح القدس، ومن كان قائد المنطقة الوسطى، يقول لضباطه قبل أيام من بدء الهجوم "أنا لا أعرف إذا كان سيحصل شيء ما، لكنني متأكد أنه فيما إذا حصل شيء ما فعنده سنكنس كل العرب من الضفة"، ويضيف مهاتفًا تيدي كولك، رئيس بلدية أورشليم في ذلك الوقت، ومطمئنًا جازمًا: "هذه حرب، لكن كل شيء على ما يرام. سوف تصبح رئيسًا لبلدية أورشليم الموحدة".
وصار يونيو في شرقنا موعدًا مع الذل ومر الكلام وصداه تذكارًا لتاريخ ينهق في آذان الغفاة والدجالين؛ للمدينة صار رئيس واحد وكهّان مثل الغيم وبأعداد الغربان، لكنها بقيت طريدة ومقروحةً مقطعة؛ فغربها أورشليم يزهو كالطواويس المنفوشة وينتفخ من تخمة حضارة حامضة، والشرق قدس تنسكب كدمعة شمس منسية وعلى منعطفات شوارعها: "في أقصى المدينة، كان اطفال التواريخ الحزينة، يجمعون الكتب والأخشاب واليتم، البراويز وأوتاد الخيام، علّها تصبح متراسًا، يسد الدرب في وجه الظلام".
وكل يونيو وأنتم نشــــامى
علــى الأرض وفــوقـــها
جواد بولس
٭ كاتب فلسطيني