جاء تعاطي الحكومة الفلسطينية بإيجابية مع مناشدات المجتمع الفلسطيني بإجراء انتخابات الحكم المحلي بشكل موحد في الاراضي الفلسطينية ليعطي مثالاً عملياً لما يجب أن تكون عليه العلاقة بينهما. حيث طالب بعض الكتاب من بينهم كاتب هذه المقالة وآخرين م. علي ابو شهلا الحكومة الفلسطينية بالتراجع عن قرارها بإجراء الانتخابات البلدية في محافظات الشمال فقط كما في 2012 وضرورة إجرائها في قطاع غزة أيضا. كذلك نشرت شبكة المنظمات الأهلية مناشدة وقع عليها حوالي 120 منظمة أهلية تطالب الحكومة الفلسطينية بذات المطلب. إن حالة الانسجام والتفاهم بين المجتمع المدني والحكومة والقوى السياسية في مجال الانتخابات البلدية تقدم نموذجاً محموداً يجب البناء عليه وتعميمه لمصلحة الجميع.
قوة المجتمع المدني مؤشر على الحداثة:
المجتمع المدني الفلسطيني كما في أي مجتمع هو مكون أساسي وطبيعي من مكونات المجتمع الفلسطيني. المجتمع المدني الفاعل يشير إلى حالة حضارية راقية تتصف بها مجتمعات الحداثة حيث يؤشر وجوده الفاعل في أي مجتمع إلى انتقاله من حالة المجتمعات البدائية إلى المجتمعات السياسية حيث القانون والحكم الرشيد والمؤسساتية. المجتمع المدني هو من يحفظ للمجتمعات توازنها وتحضرها في ظل تغول انظمة الحكم والجيوش والشركات الربحية الاحتكارية . المجتمع المدني لا يملك صلاحية سن القوانين أو شن الحروب ولا يمتلك سجونا للاعتقال وفرض العقوبات فهي من مهام السلطة السياسية و العسكرية والتي عادة ما تستخدمها بشكل جائر. لذا فإن قوة المجتمع المدني هي أحد كوابح تغول أنظمة الحكم السياسي والعسكري و شركات الاحتكار . المجتمع المدني الفلسطيني كغيره له الحق الكامل وعليه الواجب بالمساهمة الفاعلة في إثراء النقاش حول القضايا التي تهم الشأن الفلسطيني وكذلك تقديم النصح والافكار والمقترحات التي تهدف لتعزيز العدالة والمساواة بين شرائح المجتمع وتحقيق الاهداف السياسية للشعب الفلسطيني. إشراك المجتمع المدني في اتخاذ القرار ليس منحة من السلطة السياسية بل هو أحد مصادر شرعيتها و مقياس لنزاهتها .
المجتمع المدني وتاريخ طويل من العمل الوطني:
المجتمع المدني الفلسطيني يعمل بفعالية عالية منذ بدء الصراع وقبل تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية بعقود طويلة في مواجهة سياسات الاستيطان والتهويد و تعزيز صمود الانسان الفلسطيني على أرضه. قاد المجتمع المدني بمؤسساته الاكاديمية والتعليمية عملية بناء الانسان الفلسطيني وإكسابه الخبرات المطلوبة لمواجهة متطلبات التطور والحداثة. تتواجد منظمات المجتمع المدني الفلسطيني في المناطق ج والتي تشكل 62% من الضفة الغربية حيث لا تعمل مؤسسات السلطة الوطنية بحرية و في أوقات الازمات والحروب و الانتفاضة التي تعرضت لها و مازالت الاراضي الفلسطينية عامة و قطاع غزة خاصة . كان للمجتمع المدني الفلسطيني و مازال موقفا جليا ضد الشركات الاحتكارية التي تعمل على تعظيم الربح لمصلحة الاقلية على حساب الاغلبية الفقيرة. المجتمع المدني الفلسطيني لم يقف صامتا أو محايدا أمام تداعيات الانقسام اللعين الذي أصاب القضية الفلسطينية في مقتل، فلم يتوقف لحظة عن المساهمة بالأفكار والجهود العملية التي هدفت ومازالت إلى إنهاء الانقسام رغم تعرضه أحيانا لحملات التقليل من دوره. ورغم كونه ضحية للانقسام والحصار والتهميش ، إلا أنه تسامى على معاناته وعمل جاهدا على القيام بدوره تجاه الفئات المهمشة والمجروحة، فندد بالاعتقال السياسي وكبت الحريات وتجميد العملية الديموقراطية والعقود الاحتكارية الفاسدة . وفي ظل الانقسام اللعين أصبح المجتمع المدني الفلسطيني عنوان رئيس للشرائح المهمشة والشباب المتعطل على العمل و النساء المعنفات وغيرهم من شرائح المجتمع. عمل المجتمع المدني خاصة مؤسساته الحقوقية دون كلل على فضح سياسات الاحتلال من استيطان وتهويد وقتل وتجريف من خلال رصد وتوثيق هذه الانتهاكات وإيصالها للعالم. كذلك في تعزيز حملات المناصرة للقضية الفلسطينية أمام المنتديات الدولية . المجتمع المدني في معظمه ينتمي إلى الطبقة المتوسطة في المجتمع وهي الطبقة التي تحفظ للمجتمع توازنه، المجتمع المدني الفلسطيني نشأ بين ثنايا الوطن ولذا يتوجب الحفاظ عليها وعلى قوتها. منظمات المجتمع المدني في اوروبا هي من وقفت امام تغول حكوماتها ضد اللاجئين بسبب الحروب في الشرق الاوسط . المجتمع المدني الفلسطيني ورموزه سواء من أفراد أو مؤسسات تستحق التقدير والثناء والدعم وليس التهميش والاهمال.
شراكة حقيقة مستدامة وليست شكلية مؤقتة:
إن عدم الجدية والمزاجية في الشراكة الفعلية من قبل الحكومة والقطاع الخاص والمنظمات الدولية مع المجتمع المدني الفلسطيني في كثير من القضايا المحورية التي مرت بها القضية الفلسطينية لا يصب في صالح المجتمع عامة والسلطة السياسية خاصة، فالمجتمع المدني يمتلك خبرات طويلة متراكمة افضل بكثير من خبرة الحكومة و الاجهزة التنفيذية و الدبلوماسية و التي تتشكل بناء على حسابات ومحاصصة سياسية و عائلية في الاغلب. إن تفرد الحكومة والقطاع الخاص والمنظمات الدولية في تصميم وتطبيق سياسات معينة قد ساهم في الانحدار الشديد الذي تعاني القضية و المجتمع الفلسطيني. إن فشل جهود إعادة الاعمار وفشل جولات المصالحة المتعددة وتدهور الخدمات الصحية والثقافية وعقم السياسات الاقتصادية هي نتائج طبيعية لسياسات التهميش التي يتعرض لها المجتمع المدني في فلسطين.
نحو تعزيز التمويل الوطني:
إن عدم وجود صندوق وطني يخصص لدعم مبادرات وجهود المجتمع المدني يدفع بعضا منه للاعتماد على المنح الدولية والتي لبعضها اجندته الخاصة والتي لا تتفق بالضرورة مع الاهداف التنموية الفلسطينية. لذا يتوجب تعزيز التمويل المحلي لمنظمات العمل الاهلي لتقليل الاعتماد على التمويل الدولي. يمكن الاسترشاد بالتجربة الالمانية في هذا السياق. حيث تخصص وزارة الخارجية موازنات لجميع الأذرع التنموية للأحزاب السياسية لدعم عملها سواء في داخل أو خارج الحدود، يتم تخصيص موازنات حتى المعارضة منها على أن يتم صرفها بشكل شفاف وأسس مهنية جدا و تقديم تقارير نهائية موثقة عن كيفية التصرف في المنحة. الحالة الفلسطينية غير صحية مطلقا حيث يتم قصر الدعم فقط على مؤسسات الحزب الحاكم رغم أنها أموال عامة يتم تحصيلها من الضرائب من كل المجتمع . فإنني أدعو إلى:
1) تأسيس صندوق وطني يخصص له موازنات مالية يشرف عليه مجلس يتم اختياره بشكل مهني جدا، يخصص لدعم جهود منظمات المجتمع المدني، الضعيفة والقاعدية منها ضمن آليات شفافة وحسب قدرة المؤسسات وأولوية برامجها.
2) إشراك منظمات المجتمع المدني في نقاش وصياغة جميع السياسات الحكومية في كافة المجالات بحيث يكون المجتمع المدني متواجدا بشكل فاعل ومسموع في مجالات اتخاذ القرار.
3) على المجتمع المدني أن يكون قدوة يحتذى بها في مجال الشراكة مع المؤسسات الحكومية والاهلية الاخرى من المجتمع العريض: عليه أن يوجه برامجه و تدخلاته نحو الاهداف الوطنية والتنموية وأن يعزز الأسس والقيم الديمقراطية في عمله وبرامجه.
بقلم/ عمر شعبان