هل تنتظر القدس رحيل بيريس؟

بقلم: جواد بولس

قد تكون هذه آخر المعارك وأصعبها التي يخوضها شمعون بيريس الراقد على فراش المرض في وضع صحي حرج للغاية يصارع الموت وهو ابن الثالثة والتسعين عاما، قضى ثلثيها كأحد أبرز قادة الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل.
بدأ مشواره  الطويل وهو لم يكمل عقده الثالث حتى إن بلغه كان واحدا من طاقم القيادة المتقدمة، يعمل مع دافيد بن غوريون وليفي أشكول وبعدهما دوما في الصفوف الأولى وأحيانا وحيدا في قمة الهرم، وهي إحدى الصفات التي حددها للقيادة – فعندما تتطلع حولك ولن تجد في لحظات الشدة نَصوحا صدوقا إعرف أنك القائد- إنها على جميع الأحوال المعركة التي ستجهز على الجسد وتبقي ما خلّفه من إرث، يقض مضاجع الكثيرين ويسعد قوما من المحظوظين، محفورا في سفر التاريخ الذي لا يحفظ ودا إلا لمن يحرثون أرضه بالفاسات ولا يخلّد ذكرا إلا لمن يزرع الملح في شقوق أيامه الدامية.
ليس من الصعب أو الفطنة أن يستبق أحد الفرح على هذا الموت المتوقع لرجل عاش مبحرا على الجراح في سفن أحلامه، ونام دوما في خيمة الراعي الذي تمنى أن يكونه، ووسط بيوت قصيدة تاق أن يكتبها وهو يرعى النجوم، كما كان يصرح دوما؛ فمسيرة شمعون بيريس تخزّن بواقعية مثلى، كما وكيفا، جميع المتناقضات والمفارقات والقسمات وجينات حروب اليهود والعرب في العصر الحديث وتعكس، في الوقت نفسه، باستفزازية متوحشة، كيف تكون مصائب قوم عند قوم فوائد، أو تلك الفوارق بين قادة يموتون كي يعودوا إلى الماضي بغباره وبهته، وبين قائد يستشرف، من أجل قومه، ضواحي الفانتازيا بإصرار لا يعرفه إلا الموج لأنهم "مصنوعون من المستقبل" كما أجاب ذات يوم على سؤال وجهه له الصحافي دان شيلون: من أي مادة أنت مجبول؟       
قد يكون استكراه العرب، في الماضي السحيق، للتشفي من أجمل صفاتهم الانسانية التي سادت في عصور تألقهم الدارسة، فالعربي النبيل إن اقتدر وتحكّم في مصير غريم خاسر انتُظر منه العفو، لكننا ونحن نعيش في زمن الهزائم، قد يبلغ التشفي حد الأمنيات ويغدو عند البعض منتهى الفرج المشتهى.
في الحقيقة لجأت إلى بيريس لا لأكتب عن شخصه، وهو تحد قد يتلقفه أحد الباحثين من مثقفينا والمهتمين بدراسة علمية مهنية ثاقبة ناقدة في علوم السياسة ونظم الحكم العصرية، لا سيما إذا كان "بطلها" وتاريخه يشكل مرآة لهزال بعض أضداده/ غرمائه/ أعدائه الآخرين، لكن نهايته، وهذا ما يهمني في هذه المقالة، قد ترسخ، بنظري، معنى البدايات الشاخصة أمامنا وتعري أزماتها المتداعية والمتفاعلة في ميادين حياتنا كعرب ألفوا شرق أوسط شاخ فبدأ منذ سنوات يراوح على تخوم صحارى ملتهبة جديدة، وكفلسطينيين قضوا أحايين طويلة يدعون السماء أن تحميهم من "حضن" أشقائهم وأصدقائهم فهم بعدوّهم كفلاء.
موت بيريس ينهي عمليا حقبة قرن من زمن الصراع ويخليها من آخر رموزها/ الأعداء التقليديين على ما يحتمله هذا البيان من مجازات، وعلى النقيض، من تجسيدات واقعية تؤثر من خلال شخوصها على إحداثيات مصيرنا بشكل مباشر وغيره؛ فالسؤال من يوم آدم، ما زال مفتوحا على باب التأويل المطلق، وشاغله عن دور الفرد في صنع التاريخ كان وما زال يشغل بال الفَطَنة ويغيب عن عوالم الغفلة الموتورين.
سيرحل شمعون بيريس وقلبه على "أرض اسرائيل" أما عينه فستبقى حيث ما كانت دوما: على القدس الكبرى، وإليها سأصوب حدسي  في مقالتي هذه، فهو ومن سبقوه وواكبوه تفوقوا على "المستحيل" حين حلبوا أثداء تلك الأسطورة حتى جسّدوها أحجارا وبشرا وبشائر، يوم جاءت صرخة قائد جندهم، حفيد يوشع، في حزيران / يونيو الخسارة،  تعلن أن "جبل الهيكل بأيدينا". زأرة نسفت، عمليا، أحلام أمة ما انفكت تلهث وتبحث كيف تداري نزيف نكستها وتتنقل بعجز وقصور بين الأزقة ومدن الملح وبين ردهات "القصور"؛  ففي ذلك اليوم السابع غفت النواطير على زند الفاجعة، وأخالني أنها لم تعد إلى صحوتها أو، يا لخوفي، أنهم قد لا يعودون!
لن تتغير، بعد بيريس، محاور التفوق الاسرائيلي وكل ما رسم وخطط في عهوده  كاستراتيجيات عليا، سيبقى على حاله، لكنني أرى أن أهداف تلك الاستراتيجيات ستصبح أكثر عرضة لضربات مباشرة أقسى وأبشع، فسياسة "الحرير أحيانا والمحالج دوما" التي هندسوها ستندثر، ليتولى أمراء التوراة الجدد وأرباب الاقتصاد الخنازيري المتوحش، تنفيذ وصايا سمائهم وجيوبهم وتقويض ما نتأ من بقايا أسوار أحياها بيريس وصحبه حول "أريحا" الكانتونة الصغيرة ومثيلاتها وشقيقتها المحاصرة أولا غزة البعيدة. في كل المحاور دخان لكن القدس أول من وضع حبّها في طواحين إسرائيل المابعد بيريس!    
قد يعتبر بعض العرب والفلسطينيين أن كل من سيأتي بعد بيريس سيكون حتما للعرب أفضل، فلا أسوأ من بيريس ونهجه: خبث ودهاء مميزان، حلاوة لسان ثقافة وذكاء، مثابرة تجربة وعطاء. وقبل كل ذلك دأبه مدفوعا ومتمسكا بحكمة الحياة الأدوم، فلا يصير الفشل فشلا إلا إذا أناخك وأعاقك وجعلك تستسلم له وألا تعاود المحاولة والاستمرار. كان خصما صعبا والانتصار عليه وعلى مدرسته كان عسيرا وعلى الأرجح مستحيلا، أولئك العرب يؤمنون بأن مواجهة من سيأتي بعده ستكون أسهل، فكلما تمادى البطش وسفر وفاضت أنهر الدمع سيحصحص الحق ويتحقق النصر.
يرحل بيريس وعينه على القدس وهذه تواجه منذ سنوات سياسة قمع وتفتيت جديدة قد تكون الأشرس في حملات اغتصابها المتعاقبة وأخطرها. فقادة إسرائيل الجدد قرروا نسف ما وضعته مدرسة بيريس من قواعد عامة وتصورات في قضية القدس، عندما تركوا هوامش ضامرة لتبقى "قدسا" ما تعطى للعرب في لحظة استحقاق تاريخية قد تكون هزيلة لكنها ضرورية، ولذلك أبقى كل المتعاقبين على المدينة منذ احتلال شرقها عام 67  على حد أدنى من الوضع القائم وحرصوا ألا يمس طابع المدينتين: غربية يهودية تتطور بتسارع مطرد وشرقية عربية أبقيت على غبائرها وستائرها، فالحواري العربية بقيت على عتمها وبكريتها، والشوارع تركت بلا أرصفة وبلا تطوير يذكر، والشرق عاش بشرقه والشارع رقم واحد كان بمثابة الحد بين كيانين متخيلين ومناطق خطوط التماس "خُثرت" على خرائبها وندوب الرصاص في واجهات بيوتها المهجورة شهدت على عمق وكبر الجريمة والهزيمة.
هكذا كان إلى أن قرر أمراء الحرب الإسرائيليين الجدد أن يتخلوا عن الدهاء وعن فسحة أمل موهومة وعن أحلام من فكر أن يحمي مستقبل دولته في شرق أوسط جديد تكون فيه إسرائيل هي الأذكى والأقوى، شرطية على قادة ودول ضعيفة وتحظى في الوقت نفسه برضا دول العالم لأنها هي الجنة في أرض اليباب.
فبيريس سيرحل ومعه سترحل آخر كواسر الغابة، لأن إسرائيل الجديدة قررت أن القدس قدسها، لا شريك لهم فيها، فلا أمل باقتسامها ولا حتى التنازل عن رسغ منها، ولذلك فالساعة عن هم أزفت، حسبما أعلنه رئيس بلديتها وبعض الوزراء مؤخرا، وعلى العالم أن يعي ويفهم من هم أصحاب البيت الحقيقيون. إعلان سبقه وواكبه تنفيذ سياسات جديدة تستهدف ابتلاع كل منظومات الحياة المدنية بشكل مطلق لإكمال تطويق سكانها العرب وإلحاقهم، عن رضا منهم وقسرا، بشكل حتمي ومحكم في سرات حياة الدولة والمدينة؛ فبعد إغلاق كل المؤسسات المدنية الخدماتية الفلسطينية شرعت إسرائيل برمي صنانيرها وبدأت تصطاد أسماكها في بحور الحاجة والعوز وضرورات البقاء، فسيطرت، بزحف مريع، على قطاعات الصحة والتعليم والرفاه والبناء والعبادة والتجارة وتوابعها، وهدمت ما كان معروفا كمناطق تماس محرمة عليها وفق القانون الدولي وحولتها إلى مناطق عمران إسرائيلية ضخمة ربضت على أمعاء المدينة وموهت شرقها بغربها، وأرفقت مع ذلك تغييرا مدروسا في سياسة البناء تجاه شرق المدينة حتى بدأنا نشهد مؤخرا طفرة متواضعة ومحدودة، لكنها جديدة، لمشاريع بنيان لصالح السكان العرب في العديد من حارات القدس الشرقية.
لن يكون مستقبل القدس والفلسطينيين أسهل بعد رحيل بيريس، فالقضية لم تكن يوما  مخايرة بين الحياة مع الثعالب أو الغزلان، وليس أن تعيش كفلسطيني وفق حكمة السلحفاة أو بله النعام، لأنها الغابة في أحكامها وفيها من الأفضل، دوما، ان تكون أسدا أو على الأقل باشقا من بين الطيور أو نسرا، وفي جميع الاحوال إن فشلت ان تعرف كيف وأين وفي أي حضن تنام.
القضية لن تقف عند رحيل بيريس ولا باستقدام الفرح البارد على موته، فقضيتنا كانت طيلة تلك القرون ما جرى للعرب في عهد بيريس وقبله وستبقى بماذا سيجري للعرب ولنا الفلسطينيين ما بعد موته، فنحن مختلفون معه، وقد نغضب منه أكثر بعد موته، لكنه سيرحل تاركا عصرا، شئنا أم أبينا، بعض عجائنه، يا لحسرتنا، صبت في فواخيره وفواخير أمثاله من صناع الخزف المهرة والصاغة والسباكين.
انا لست من الشامتين ولا من مستقدمي الفرح الباهت وقد يكون الغاضبون من هذه النهاية كثر فالمعذرة من بعضهم، لكن للمقالة تتمة عن القدس والثورة مابعد بيريس.  

جواد بولس
كاتب فلسطيني