ثل كل البدايات التي نقف على بواباتها نحلم بفرح ينبعث من أمل تجسده إرادة شعب يحفر بأظافره بين صخور هذا الوطن لكن النهايات التي نصل لها عادة تكون محملة بإرث ثقيل من الفشل الذي يتوزع في التفاصيل .. فيصفعنا لتبدو البدايات تشبه النهايات والأعوام تتشابه ومقال الحصاد يشبه ما سبقه في جرعة التوق للمستقبل وفي الفشل الذي يلفنا كل عام بزيادة الغضب مما لم يتحقق.
في نهايات الأعوام تقف الشعوب والدول بعد أن تكون قد أجرت جردة حساب عميقة تقارن مع نفسها أين كانت وأين وصلت .. ماذا أنجزت وأين أخفقت .. تستفيد من تجاربها تحاكم نفسها وتحاسب قادتها.. تقيس كل شيء ..تتحسس ذاتها ومناعتها الوطنية في السياسة والاقتصاد والأمن والصحة والتعليم وفرص العمل ونسب البطالة ومستوى حياة مواطنها ومستوى الحريات وكل شيء وأغلب الظن أن كل ذلك خارج الحسابات فلا شيء في البدايات والنهايات سوى احتفالات وتبادل التهاني.
انتهى العام الذي حمل قدرا من التفاؤل بقدرة النظام السياسي الفلسطيني على معالجة نفسه من جرح الانقسام الغائر فقد جرت محاولات جادة هذا العام في الدوحة سواء على مستوى الوفود أو على مستوى القمة لينتهي العام بفشل ذريع هو النتيجة الطبيعية لطفولية العقل العربي في ممارسته للسياسة التي لا تعرف الحلول الوسط ولا تعرف أنها عندما تعجز عن حل أزمة في النظام السياسي عليها أن تعلن ذلك لا أن تعيد تكرار مشهد أصبح مملا أمام جمهور غاضب من أداء الممثلين.
ماذا يحمل العام الجديد؟ لم يعد الناس ينتظرون الكثير واصبحوا لا يصدقون أحدا من السياسيين المدججين بالشعارات ولا الكتاب الذين يحاولون استيلاد حلم من واقع ينحدر أكثر نحو نهاية لا أحد يعرف شكلها .. لكن المسار الذي يتَبَدى أمامنا خلال السنوات الماضية لا يبشر بالكثير فالأداء أقل كثيرا من الطموح الذي ينتظره أي مواطن فلسطيني لأن فائض الأمل الذي اجتاحه يوما ما وهو ينتظر أن يحكم الفلسطيني نفسه آخذ بالتبدد عندما اكتشف أننا نشبه كل العرب.
الإسرائيلي ليس قدرا أمام هذا الشعب المنزرع في هذه الأرض والمتحدي كل هذا الجبروت المسلح بإرادة نادرة يعرف أن الزمن يسير في صالحه لأنه ليس أمام إسرائيل من خيارات كثيرة وتتبدى أزمتها أكثر مع حكومات يمين تستمر في عزلها وتسرع أكثر نحو تظهير حقيقة الصراع وتدفعها نحو حقائق التاريخ والجغرافيا التي تتجسد هنا فلا التاريخ ألغى الفلسطينيين ولا الجغرافيا تمكنت من شطبهم .. صحيح أننا سنكون أمام عام صعب في مواجهة إسرائيل مع وصول إدارة أميركية تشبه تل أبيب في يمينها لكن الصراعات الطويلة تحتاج إلى زمن أطول حتى تكتشف نتائجها وأن حقائق التاريخ أكثر صدقا من حقائق القوة.
السؤال الأبرز الذي يجب أن يشغل الفلسطينيين مع بداية العام هو كيفية إعادة تموضع القضية الفلسطينية في ظل التحولات الدولية والإقليمية الهائلة .. فقد تكثفت هنا أحداث قرن من الزمن على امتداد السنوات الخمس الماضية كادت تجرف قضيتنا في طريقها لولا معجزة البقاء الهائلة التي يملكها الفلسطيني، فالقضية الفلسطينية تمتلك من القوة ما لم تمتلكها أية قضية أخرى فهي أعدل قضية تقاتل ضد الاحتلال وسط كل هذه الصراعات الدموية في المنطقة على الحكم، وكذلك فهي القضية الأنقى التي لم تلوث بالإرهاب وبقيت محافظة على طهرانية نادرة أمام احتلال لم يتورع عن استخدام كل المحرمات الدولية ضد الأبرياء.
ممكنات القوة تلك التي تملكها القضية الفلسطينية تجعل من تحقيق الاستقلال وزوال الاحتلال أمرا حتميا فلا يمكن لشعب أن يبقى محتلا للأبد ولكن هذه القضية دوما بحاجة إلى روافع على مستوى تحمل المسؤولية .. قادرة على السير بها وسط حقول الألغام التي تنفجر في كل الإقليم محدثة هذا القدر من الغبار الذي كاد يحجب الرؤية عن قضيتنا .. هناك قضايا كانت عادلة ولكن لافتقاد الشعوب لقيادات حقيقية تآكلت قضيتهم، ذات يوم كانت القضية الكردية في عصر الزعيم مصطفى برزاني في الواجهة ولكن بعد أن تسلم ابنه مسعود الذي سارع لبناء علاقات مع إسرائيل تراجعت القضية الكردية.
المشهد الفلسطيني مع بداية العام لا يسر صديقا تماما كما كل الأعوام السابقة وأسوأ، ندخل مقسمين مشتتين متصارعين وبروح فقدت إرادة التغيير ورغبة التقدم، كل همها الحفاظ على ما هو قائم من مكتسبات تحت الاحتلال، رئاسة وتشريعي ومؤسسات بلا انتخابات راسخة بلا أي جديد ومع الزمن تفقد بريقها وتصبح جزءا من هذا اليأس الذي يتغلغل في كل الزوايا تاركا كل هذه الظلال المخيمة على المشهد وأسئلة لا حصر لها عن المستقبل والمسار الضبابي الذي تسلكه.
إن الحديث عن فيدرالية غزة والضفة هو حديث كاريكاتوري يعكس تماما مستوى تردي الحالة الفلسطينية ولكنه يعكس أكثر التسليم بالفشل واليأس من إنهاء الانقسام والاستسلام أمام واقع بدا أكبر من صانعيه أو بصراحة أكثر بدا صانعوه مجرد ممثلين يؤدون دورا في سيناريو أكبر منهم بكثير .. ففي أحداث التاريخ الكبرى ينكشف حجم القادة الحقيقي فهناك من يصنعون تاريخ ويحركونه وهناك من تحركهم رياحه الخفيفة وتجره الأحداث إلى حيث تريد.
والمأساة تتضح أكبر عندما نتحدث عن فيدرالية في هذا الواقع هذا يعني أن الاحتلال انتهى ولا قضية وطنية وما تبقى لدينا من مهمة هي فقط توزيع السلطة والثروة لأن مفهوم الفيدرالية جاء ليعالج ذلك التقاسم والحقيقة أن من يتابع حركة الفصائل وسياستها وعلاقتها الإقليمية قادر على اكتشاف نمط التفكير السائد وهو نمط يدعو للحزن على ما نحن فيه وما وصلنا إليه أو ما أوصلنا أعدل وأطهر قضية إليه من صراعات كل همها الحكم والسلطة، وهذا تدعمه حقائق الواقع التي تجرجرنا أكثر نحو إدراك أن لا شيء تحقق ولا استقلال أنجز ولا حدود أو أسلاك تراجعت للوراء.
ندخل العام بلا أي بشرى لمواطن انتظر طويلا ودفع كثيرا ليكتشف أنه ليس أكثر من جمهور عددي شكل جسرا لسياسيين وصلوا إلى أين يريدون وتركوه يعاني الفقر والبطالة والجوع والحزن وانقطاع الكهرباء .. مواطن لم تعد قضاياه أولوية لدى السياسيين الذين لم تؤهلهم ثقافتهم في الحكم لمعرفة أنهم ليسوا سوى خدام لهذا الشعب بل هم حكامه وتلك حكاية طويلة من الواضح أنها تحتاج إلى الكثير حتى يفهمها الفلسطينيون .. الأمل كبير أن تشكل بداية العام محطة يقف فيها كل سياسي أمام المرآة مع قليل من الشعور بالمسؤولية فالشعب يستحق أكثر..!
أكرم عطا الله
2017-01-01