بعد ٢٢عاماً من العمل في جامعة فيلادلفيا الاردنية الخاصة ، ودع الشاعر الفلسطيني الكبير الدكتور عز الدين المناصرة زملاءه واحباءه وجدران وساحات وكليات جامعته التي كانت بالنسبة اليه بيتاً دافئاً ، وكان احد أعمدتها الرئيسية طوال تلك السنوات ، حيث أشغل رئيساً لقسم العلوم الانسانية ، ورئيساً لقسم اللغة العربية ، ونائباً لعميد كلية الآداب والفنون ، ونائباً لرئيس المؤتمر الثقافي السنوي الدولي ، ورئيساً لتحرير مجلة فيلادلفيا الثقافية ،
وكان عز الدين مناصرة نال شهادة الدكتوراة من جامعة صوفيا ، وساهم في تأسيس الرابطة العربية للأدب المقارن ، وله احد عشر عملاً في مجال الشعر ، وخمسة وعشرون مؤلفاً في النقد الأدبي والثقافي والتاريخ والفكر .
عز الدين المناصرة من ابرز شعراء الكفاح والمقاومة والوطنية الفلسطينية ، ومن أهم المتخصصين في النقد الأدبي والثقافي المقارن ، ولا يقل أهمية عن الراحل محمود درويش وسميح القاسم في القصيدة ، وعن اداوار سعيد في النقد الثقافي .
انه شاعر عميق ومثقف كبير ، ارتبط بالحركة الوطنية الفلسطينية والمعاقل الثورية ، ووضع فكره وقلمه في قلب المعركة لاجل ترسيخ الكلمة والوعي الثقافي .
وهو الفتى الفلسطيني الخليلي ، ابن بلدة بني نعيم ، الذي عصفت به رياح الترحيل والتشريد ، ووجد نفسه في مهب الريح مع آلاف المشردين من أبناء الوطن الفلسطيني ، وهو النموذج للفلسطيني الكنعاني الذي ما زال يعيش واقعاً مريراً يدفعه الى رفض الاستسلام ، وقد توزعت حياته بين العمل الجامعي والابداع الشعري والنقدي والكفاح السياسي بتلقائية المناضل الطليعي .
ويظل عز الدين المناصرة في قلب بيروت قبل أن يستقر في الاردن ، وسط آلات الدمار والموت ، وتظل الكلمة عنده رجع الصدى للطريق الصحيح الى عنب الخليل ، تحاول جاهدة وبكل صدق وواقعية الوصول الى الحقيقة .
كرغيف الطابون الساخن مغمساً بزيت الزيتون الأخضر ، وموال فلاح فلسطيني يدرس حبات القمح على البيدر ، ويحلم بالموسم المعطاء ، هو شعر عز الدين المناصرة الذي يعبق برائحة الوطن وبرتقاله وزعتره الجبلي ، بمعاناة صادقة حقيقية ، يتمزق قلبه ألماً وهو يرقب ساعة اللقاء الكجبير والعودة الى ربى الخليل ، والخليل عنده الرمز والصورة للوطن الفلسطيني الكبير .
اشعار عز الدين المناصرة تصور بصدق ضياع الفتى الفلسطيني واكتشافه بنفسه حقيقة الإشياء والطريق الى الوطن ، رغم كل الصعاب والعراقيل والغشاوات التي تفرضها الظروف المختلفة الصعبة ، لنسمعه يقول :
مضت سنتان ...قالت جدتي وبكت
وأعمامي يهزون المنابر آه ما ارتجوا
ولا ارتاعوا مضت سنتان - قال
الشاعر المنفي حين بكى
اضاعوني
وأي فتى أضاعوا
مضت سنتان .. ارض الروم واسعة
وجدي دائماً عاثر
وسوق عكاظ فيها الشاعر الصعلوك
وفيها الشاعر الشاعر
واعمامي
يقولون القصائد من عيون الشعر
وامي مهرة شهباء تصهل قبل خيط
الفجر
تفك هنا ضفائرها
وتلبس ثوب الاسود
وأمي تقرأ الأشعار في الاسواق
يقول عز الدين المناصرة عن ديوانه " باجس أبو عطوان يزرع اشجار العنب " : " هذا الديوان بالنسبة لي نقطة تفاؤل ، انني لم امجد ما فعل الرجل فذلك اكبر من قصيدتي ،ولكني ، وهذا ما اريد ان اوضحه ، استطعت العثور ضمن ملحمة بطولية على رصد عاطفي هو انتماء باجس الى حبيبتي - مدينة الخليل - التي يعتبرها مركز تجربته الشخصية بكل تراثها وناسها وحجارتها وكرومها هي ، والصور التي تأتيه من الوطن شجى اليه من الاماكن التي يعرفها ، فهو عندما يسمع او يقرأ خبراً عن اي مكان في وطنه ويتخيل أن ذلك حدث في مدينة الخليل .
عز الدين المناصرة كان ولا يزال مسكوناً بقضية شعبه كقضية تحرير وحرية ، لم تكسره المعارك التي خاضها مقاتلاً ، ولا ذهب برأسه سكرة التسويات المذلة ، فاستمر حيث وجد متطلعاً الى فلسطين ، الوطن والمستقبل والهوية والجذور منكباً على كنعان ، وفي فمه دوماً سكر من العنب الخليلي .
ويبقى شعر عز الدين المناصرة رافداً صادقاً من روافد حركة الشعر الفلسطيني الواقعي الملتزم ، والرعوي الفلاحي .
فتحية لك يا عاشق عنب الخليل ، ودمت بعافيتك وعطائك ، وننتظر منك الكثير بعد تفرغك الان وانهاء عملك الاكاديمي ، ولك الحياة يا ابن الحياة ، الذي غنى لجفرا الوطن المسبي ، والزهرة والطلقة والعاصفة الحمراء ، فمن لم يعشق جفرا عز الدين المناصرة ، فليدفن رأسه الأخضر في الرمضاء ..!
بقلم/ شاكر حسن