تعود الذاكرة أحياناً للوراء لتستل ما يمكن أن يثبت أخلاقية السياسة وفهلويتها، ففي عام 1991 كنا في سجن النقب الصحراوي، وكانت إدارة السجن تصرف لكل سجين خمس سجائر يومياً لم تكن تكفي للمدخن من أبناء القوى الوطنية، وبالمقابل كانت حركة حماس لديها فائض دوما لأن أبناءها ليسو امدخنين، فتقوم بإتلافه على الملأ أمامنا جميعاً وباعتباري كنت مكلفاً بالتنسيق نيابة عن فصيل، عرضت على ممثل حماس صفقة بأن لدينا كثيرا من قطع الصابون يحضرها المحامون بكثرة، ولدينا فائض وعرضت عليه أن نقايضهم الصابون بالسجائر.
كان ممثل حماس وهو الاّن رجل على درجة كبيرة جدا من الأهمية “لن أذكر اسمه” ممثلاً للحركة في النضالية العامة عن قسم “ج” ، كان رده أنهم لو قبلوا بالصفقة وأخذنا السجائر فإنه سيؤثم ويخالف الشرع، لذا اعتذر الرجل واستمرت الحركة بتمزيق السجائر التي تصرف لأبناء حماس.
استحضرت هذا من الذاكرة وأنا أشاهد حجم الضرائب التي تفرضها الحركة على السجائر في قطاع غزة، والتي أحدثت ثورة واحتجاج على وسائل التواصل الاجتماعي، ليس فقط لأن الأسعار تشبه بأسعارها في عاصمة من أغلى العواصم في العالم مثل باريس، بل لأن الموقف الذي اتخذ بعداً دينياً أيديولوجيا صارماً يتعلق بالحلال والحرام والإثم قبل أقل من ثلاثة عقود انهار تماماً تحت وقع المال وإغرائه، وتحت ضغط المصلحة.
وهنا أهمية ما كتبه الباحث أنتوني نتنج وهو يتأمل السيكولوجية العربية، حين وصف العرب بأنهم “لامعياريون” أي ليس لديهم معيار محدد لقياس الأشياء، وهنا حتى الأيديولوجيا وفتاويها لا تشكل معياراً لأمة تضع مصلحتها فوق أي اعتبار، بما فيها الدين، وهنا تصح تماماً مقولة تسييس الدين، أي استخدامه لأغراض مصلحية حد التلاعب به.
يعتبر “نتنج” أن العرب يمكن أن يعطوا موقفين متناقضين أو حكمين متضاربين لحدث واحد، والأمر يتعلق بالمصلحة، فالمصلحة هي التي تحدد الموقف وليس المعيار الأخلاقي أو الديني، وهنا ما يستحق التأمل في سلوك القوى الدينية، وهناك الكثير من المتناقضات في المواقف التي جرى الباسها ثوب الدين، ومنها الانتخابات والتهدئة والهدنة، وهنا أزمة السياسة والدين والتضارب الحاصل لصالح السياسة على حساب الدين.
السياسة حالة ديناميكية متحركة تنطلق من المصالح سواء الخاصة أو العامة، لكن الدين حالة استاتيكية جامدة بأحكام وثوابت لا تقبل التغيير .. وهنا حين تتداخل السياسة بالدين وفي حال اختناق السياسة لابد من ايجاد المخرج من خلال تحريك الثوابت الدينية، وهذا ما يحدث أو بالمقابل تجميد السياسة انطلاقا من ثوابت الأيديولوجيا، وهنا أزمة لا تقل عن الأولى، وربما أن تلك تفتح على مقولة فصل الدين عن السياسة للحفاظ على الدين أولا، ولإطلاق العنان للسياسة دون قيود.
حدث هذا مع الإخوان المسلمين في مصر عندما ظلوا لعقود طويلة يرفضون اتفاقية كامب ديفيد بين الدولة المصرية وما كانوا يسمونه “الكيان” في بياناتهم، ولكن حين وصل الإخوان للرئاسة أرسل الرئيس محمد مرسي رسالة للرئيس الإسرائيلي آنذاك شمعون بيرس، يؤكد له استمرار العمل بالاتفاقية، وغابت لغة رئيس الكيان بل الرئيس الاسرائيلي.
كم تغيرت حماس منذ أن وصلت للسلطة؟ هناك تغيرات ايجابية استدعتها قراءة التجربة والتي كانت مجرد شعارات نظرية أدركت عقمها، ولكن التغيرات السلبية هي الأهم، سواء من ناحية السياسة أو لناحية الدين، وربما يحتاج الأمر إلى أبحاث ماجستير لمعرفة حجم التغيرات والتضارب الحاصل، فالتغيير بما يخص الضرائب وشرعنة السجائر لا يتعلق بالدين، فهذا متروك لله، ولكن أن يجري تحميل الناس هذا القدر من العبء المالي فهذا ظلم وزيادة في الحصار.
ذات مرة طالب أحد الكتاب القريبين من حركة حماس على فضائية الأقصى بفرض ضرائب باهظة على السجائر لحل أزمة الحركة المالية قائلا: “كل المدخنين من فتح والسلطة”، وهنا بيت القصيد أن الاستهداف هذه المرة ليس لكل المواطنين بمن فيهم موظفو حركة حماس، بل شريحة محددة هي على النقيض تماما من الحركة.
بالعادة فإن الضرائب هي جزء من علاقة متكاملة بين الدولة والمواطن، الدولة تؤمن له اقتصاد وفرص عمل ووظائف، والمواطن يدفع ضرائب، إما أن يكون نظاما سياسيا وظيفته أن يأخذ ضرائب أي يأخذ كامل حقوقه وأكثر ولا يستطيع الايفاء بالحد الأدنى من واجباته، فهنا أزمة أكثر خطورة في مفهوم الحكم، إذ يبدو أنه ليس أكثر من التحكم في البشر والتسيد عليهم حتى لو كان إفقارهم، وحتى لو كان على حساب الدين.. وتلك هي القصة..!
أكرم عطا الله