حزب التحرير وتجاهل الميزات الفلسطينية

بقلم: سري سمور

في عدة مقالات سابقة ناقشت أسباب فشل فصائل وقوى اليسار الفلسطيني في منافسة فتح أو حماس أو أن تكون تياراً ثالثاً، وتحدثت عن أمثلة مختلفة,والخلاصة هي أن اليسار لم ولن ينافس القطبين للأسباب التي عرضتها.

الحركات الإسلامية الأخرى

ولكن ماذا عن الحركات الإسلامية غير حماس, لماذا لم تستطع منافسة حماس, وبالتالي تنافس فتح, أو لمَ لم تصبح الند مقابل حماس, بحيث تكون الحالة الفلسطينية منافسة حركات إسلامية مع بعضها؟

الإجابة عن هذا السؤال المهم تتطلب قراءة الخريطة السياسية والاجتماعية الفلسطينية بتمعن وتعمق .

ولكن في هذه المقالة والتي تليها سأكتفي  بمناقشة عامة لحركتين إسلاميتين هما: حزب التحرير وحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين.

حزب التحرير ومعضلة الهوية

أثار حزب التحرير صخباً وسبب لغطاً قبل أكثر من أسبوعين عندما تبنى الإفطار لثبوت رؤية هلال شهر شوال في السعودية، ولو خالف هذا أهل البلد الذي هم فيه أي فلسطين ومخالفة المفتي، وهذا الأمر ليس جديداً على الحزب، فقد حصل أمر مشابه تماماً أوائل تسعينيات القرن الماضي حين كانت الأوقاف الفلسطينية تحت إشراف الأردن.

ويستغل الحزب أي فرصة كي يقول ضمناً أو صراحة أنه لا يعترف بالحدود التي صنعتها اتفاقات أوروبية استعمارية مثل سايكس-بيكو وأخواتها، بدعوى الحفاظ على وحدة المسلمين، وإنكار الحدود المصطنعة بين بلدانهم؛ ولكن الحزب، كما اتضح بهذا السلوك والتصرف، قد أحدث انقساماً أخط؛ بنقل الفرقة إلى البلد الواحد والمدينة الواحدة بل حتى إلى داخل الأسرة الواحدة كما رأينا، ولو أخذ بقاعدة (ما لا يدرك جله لا يترك كله) لاختار وحدة أبناء بيت المقدس وأكنافه وعدم الانفراد برأيه مهما كانت المبررات.

وهنا أنا أرفض تفسير موقف الحزب هذا بأنه أراد إيجاد قضية ينشّط بها قواعده ويجذب بها الأنظار ويخطف الأضواء ولو برهة من الوقت، في ظل الركود السياسي وتراجع اهتمام الناس بأفكاره؛ فهذا تحليل/تفسير يغيب عنه معرفة طبيعة وبنية الحزب الفكرية والمنهجية والتي سأتطرق لها لاحقا بمشيئة الله.

عوامل فلسطينية لم يستغلها الحزب

لحزب التحرير ميزات كفيلة بجعله فاعلاً مهما مؤثرا تأثيرا مركزيا في الساحة الفلسطينية؛ فهو تأسس في مدينة القدس سنة 1953م أي بعد بضع سنين من النكبة الكبرى.

ومؤسس الحزب هو الشيخ تقي الدين النبهاني- رحمه الله- وهو من بلدة اجزم المحتلة المهجرة قضاء مدينة حيفا المحتلة؛ وهذه البلدة كانت مميزة قبل النكبة وخرج منها العديد من رجالات القضاء والعلماء والمعلمين والساسة والأدباء والإعلاميين؛ ولولا النكبة لكانت اجزم اليوم من أهم المدن ليس في فلسطين فقط بل في سائر بلاد الشام.

لكن الحزب لم يستغل هذه العوامل التي تعطيه أفضلية واضحة (مكان التأسيس ورمزيته وخلفية المؤسس) للعمل في الساحة الفلسطينية لأن مشروع الحزب هو إقامة دولة الخلافة الإسلامية التي تمتد من الأندلس حتى الهند وآسيا الوسطى وسائر أفريقيا وغيرها من بلاد المسلمين؛ فهو(الحزب) يرى أن هذا يقزّم رسالة الحزب ويحصرها في العمل ضمن إطار ضيق.

وهذا جمود لا يتوافق مع تطورات القضية الفلسطينية التي عاشها الحزب ويعرفها جيداً..فلم يعط الحزب لفلسطين خصوصية تذكر ولم يطور أساليبه وخطابه بسبب فرط المركزية التي تحكمه.

فلو أخذنا اليسار الفلسطيني مثلاً مع أن له مشروعا دوليا كبيرا خاصة إبان الحرب الباردة فقد أفرز جبهات وفصائل تعمل من أجل النضال الفلسطيني بإعطائه أولوية؛ وتجسد ذلك بانطلاق الجبهة الشعبية( جورج حبش) من رحم حركة القومين العرب, التي كانت لها طموحات بتوحيد الأمة العربية ثم تحرير فلسطين.

وحركة حماس ولدت من رحم الإخوان المسلمين, والإخوان كانوا في فترة ما لهم مركزية في العمل, وكان الفرع الفلسطيني ضمن منطقة/دائرة الشام ولكن القضية الفلسطينية وخطر المشروع الصهيوني دفع الإخوان لإيجاد جسم سياسي وعسكري وإعلامي متفرغ للشأن الفلسطيني وقد يختلف مع الحركة الأم في أكثر من موقف..ولكن الحزب فخور بأنه لم يفعل يفرز جسما مشابها!

فعدم إفراز جسم حركي يتفرغ للعمل في الكفاح الفلسطيني, لا يعني بالضرورة التخلي عن المشروع الأكبر، لا سيما مع إصرار الحزب على الوجود في الأراضي الفلسطينية واستقطاب الناس, مع أنه يرى أن فلسطين هي دار حرب ولا تصلح في وضعها الحالي لإقامة نواة دولة الخلافة التي يراها الحزب أساس حل كل مشكلات المسلمين.

ودعوى الوجود في فلسطين هي تهيئة الناس لفكرة دولة الخلافة, هذا مع أن الناس إذا أقام الحزب تلك الدولة وأتت جحافلها وحررت فلسطين فسيسيرون خلفه ولو لم يكن ثمة عنصر واحد منتم إلى الحزب حالياً!

ولعل هذا يفسر تراجع قدرة الحزب على الاستقطاب والانتشار؛ فمن عاشوا مرحلة خمسينيات القرن العشرين يتذكرون كيف كان الحزب واسع التمدد والانتشار، ربما لأنه ربما أول حزب سياسي جديد بأيديولوجيا إسلامية-على اعتبار أن الإخوان ليسوا حزبا- ولعامل الزمان والمكان الذي ذكرته.

الحزب الثالث

ربما من المغامرة أن أخط ما أنا مقتنع به, نظراً لعدم وجود إحصائيات مهنية مختصة, ولأن الحزب لا يشارك في انتخابات عامة أو محلية أو حتى طلابية كي نقيس حجم شعبيته؛ ولكن برأيي أن حزب التحرير يأتي في المرتبة الثالثة بعد القطبين الكبيرين (فتح وحماس) حتى وإن لم يظهر هذا في أغلب معايير القياس المعروفة.

فعندما ينظم الحزب فعالية ما, وهم مؤخراً صاروا ينظمون مؤتمرات وتظاهرات بمناسبة إلغاء الخلافة العثمانية على يد مصطفى كمال أتاتورك سنة 1924، فإن من يشارك في تلك الفعاليات هم أعضاء وأنصار الحزب حصراً رغم أنهم يوجهون دعوات عامة.

وهذا لا ينطبق على فعاليات حماس وفتح غالباً؛ فقد يشارك في فعاليات حماس أشخاص أقرب إلى فتح وبالعكس، وهذه من معالم الحالة الفلسطينية في ظل الاستقطاب والانقسام الذي تتداخل فيه العواطف مع العلاقات الاجتماعية مع أشياء أخرى؛ لكن من يحضر فعالية لحزب التحرير أو لنقل الغالبية القصوى هم فعلا من الحزب أو محازبيه الذين يتبنون أفكاره، ونرى أن حضور فعاليات الحزب لا يستهان به من حيث الجمهور.

وللحزب وجود واضح في مناطق القدس والخليل وقلقيلية وبعض مناطق 48 وغيرها، لكن بالنسبة والتناسب فإن الحزب تراجع مقارنة عن مرحلة خمسينيات القرن الماضي, فقد كان تأييده أكبر, ربما لأنه كانت تجربة جديدة, وخطاب جديد في محتواه كما أشرت آنفا، مع التذكير بأن فلسطين كانت مهد انطلاقة الحزب ومن الطبيعي أن يكون لهم معاقل فيها.

لا توجد إحصاءات أو مقاييس كي نقدر حجم الحزب في الأراضي الفلسطينية إلا بالملاحظة ومراقبة الفعاليات.

وهذا يجعلني أقول بثقة إن الحزب يتفوق على كل قوى اليسار من حيث الأعضاء و الأنصار والانتشار الجغرافي، ولهم حجم صوت انتخابي مؤثر، لا يستخدمونه...وأعلم أن من ليس في منطقته نشاط للحزب أو يقيس الأمور بطريقة فيزيائية أخرى سيسخر أو يستهجن كلامي...على كل يظل اجتهادا حتى توجد أداة أو طريقة قياس مناسبة.

حزب سياسي

ولكن هل من المنطق تصنيف حزب التحرير ضمن الحركات الإسلامية شأنه شأن الإخوان والجهاد والحركات السلفية وغيرها؛ بينما الحزب يعرّف نفسه صراحة بأنه (حزب سياسي مبدؤه الإسلام) وهذا تعريف كاف لإعادة النظر بهذا التصنيف؟

الجواب:إن هذا التعريف ينطوي على تصنيف الحزب ضمن الأحزاب والحركات والقوى الإسلامية؛ ذلك أن هدف الحزب هو إقامة دولة الخلافة الإسلامية, وينادي الحزب بضرورة استئناف الحياة الإسلامية, كما أن مواقف الحزب المعلنة مبنية على فتاوى وآراء اجتهادية فقهية يختارها الحزب..ولذا فإن حزب التحرير لا ينفصل عن ظاهرة الحركات الإسلامية ولو اختلف معها إلى درجة كبيرة.

في المقال القادم إن شاء الله، سأتحدث عن علاقة وموقف حزب التحرير من الحركات الإسلامية الأخرى وخاصة الإخوان المسلمين وفرعهم الفلسطيني وتأثير ذلك على وضع الحزب.

،،،،،،،،،،،،،

الإثنين 20 شوال1440هـ ، 24/6/2019م

بقلم/ سري سمّور