عام جديد حافل بالانفجارات.. والاستراتيجية الفلسطينية الغائب الأكبر

بقلم: معتصم حمادة

معتصم حمادة

(1)

استقبلت المنطقة العام الجديد بسلسلة من المنخفضات الجوية، والعواصف والأنواء، ألحقت ببعض المناطق أضراراً، وأغرقت الشوارع والمناطق الواطية، وشردت بعض السكان.

لكن هذا كله لا يقارن، من حيث خطورته، بما تعيشه المنطقة من تطورات عاصفة، تدق فيها طبول الحرب، بل وتشتعل في أرجائها حروب طاحنة، أغرقت البلاد بالدم، ودمرت اقتصاداتها، وشردت سكانها، ومزقت نسيجها الاجتماعي.

وقد جاءت واقعة اغتيال اللواء قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري في إيران، لتصب الزيت على النيران المشتعلة، ولتضع المنطقة كلها أمام احتمالات، لم يستطع أبرع الخبراء في تقدير آفاقها، خاصة بعدما صدر عن القيادات السياسية والعسكرية في إيران، وعن قادة المنظمات والأحزاب الموالية لها، تصريحات، رأت أن الرد على جريمة الاغتيال، سيكون بترحيل الجيوش الأميركية من المنطقة، وأن الحرب ضد الولايات المتحدة، ستكون في كل مكان، كما أكدت على ضرورة إعادة الصف الأوسع من عسكريي الولايات المتحدة، ضباطاً وجنوداً، في نعوش مغلقة، باعتبارها الوسيلة الأسرع لإقناع إدارة ترامب، والبنتاغون الأميركي بأن الانسحاب من المنطقة، هو السبيل الوحيد للنجاة بحياة الجنود الأميركيين. ما يعني، في الخلاصة، أن المنطقة، وفقاً لهذه التصريحات، والتي أخذتها إدارة ترامب على محمل الجد، قد باتت مسرحاً لحرب مفتوحة بين إيران وحلفائها من جهة، وبين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة أخرى، لا يدري المراقبون، إن كانت ستدار بالواسطة أم بالمواجهة المباشرة .

 

 

(2)

يأتي هذا التطور المتسارع والصاعق، في وقت يعيش فيه أكثر من بلد عربي أوضاعاً ساخنة، تطوراتها هي الأخرى مفتوحة على الاحتمالات العديدة.

• ففي ليبيا، احتدمت معركة طرابلس، بين قوات «الجيش الوطني الليبي» بقيادة المشير حفتر، وبين قوات حكومة الوفاق بقيادة السراج. وقد دخل على الملف الليبي تطور إقليمي مؤثر، تمثل في التدخل التركي المفضوح في الحرب لصالح السراج، الأمر الذي أقلق دول الجوار، من القاهرة إلى السودان، إلى تونس إلى الجزائر، خاصة وأن ليبيا عضو في الاتحاد المغاربي وتربطها بهذه الدول حدود مشتركة، من شأنها أن تحمل سخونة الحرب على رياح التفاعل التجاوري. وقد لقي التدخل التركي ردود فعل غاضبة من القاهرة، وتتحدث المعلومات عن إرسال حكومة أردوغان «مرتزقة» من المجموعات المسلحة في إدلب إلى ليبيا، كما تتحدث عن هبوط طائرة عسكرية روسية قادمة من مطار حميميم قرب اللاذقية، تحمل هي الأخرى متطوعين (ويقال خبراء روس أيضاً) كما تتحدث المعلومات عن دور ما للطيران الحربي الإماراتي في إسناد قوات حفتر، ما يعني أن ليبيا بدأت تتحول إلى مسرح لحرب إقليمية طاحنة، لن يكون الجوار بمنأى عن نتائجها المأساوية، إن من حيث تدفق اللاجئين والمهجرين، أو من حيث امتداد النيران بشكل أو بآخر، هنا، وهناك.

• في الوقت نفسه، تعيش ثلاث دول مجاورة حالة انتقالية، هي السودان، والجزائر وتونس، وهي أحوج ما تكون إلى الهدوء لتتجاوز العقبات التي تعطل عليها أن تقلب صفحة الماضي لصالح صفحات جديدة توفر لكل منها، الاستقرار والازدهار، والانتقال نحو بناء الدولة الوطنية وفق معايير جديدة، تتجاوز سلبيات الماضي وثغراته، وفساده، وتخلفه. تأتي الحرب الليبية، لتشكل عامل اشغال وقلق لهذه الدول، خاصة في ظل تدخل تركي، يحمل في جعبته أحلاماً إمبراطورية، تبحث لأنقرة عن دور إقليمي في سوريا، العراق، وليبيا، وفي حروب غاز البحر المتوسط، خاصة بعد ولادة المشروع الثلاثي (اليونان ـ قبرص ـ إسرائيل). أردوغان يحلم بلا شك، في أن يكون لاعباً إقليمياً رئيسياً، لا يقل أهمية عن اللاعبين الأميركي والروسي، عندما توضع بعض الملفات الإقليمية إلى طاولة المفاوضات. ما يعني في السياق، أن أحلام التدخل التركي لا تقف عند حدود ليبيا، وأنها لن تقف مكتوفة الأيدي، في مواجهة أية عراقيل، تعتقد أن من شأنها أن تجهض لأروغان أحلامه الكبرى.

(3)

وإذا ما انتقلنا من غرب الخارطة العربية إلى شرقها، وتوقفنا في بغداد لوجدنا أنفسنا في قلب أتون مشتعل، تغذي نيرانه العديد من الملفات المتفجرة.

• ملف الانتفاضة الشعبية، للأجيال الشابة التي انطلقت بشكل رئيس في مناطق الشيعة تحتج على نظام المحاصصة الطائفية، وعلى دور الأحزاب الشيعية الغارقة في بحر الفساد السياسي والمالي، تمارس سياسة النهب المنظمة لموارد الدولة، في الوقت الذي يشكو فيه الشباب من البطالة، ومن غياب الخدمات، وغياب الدولة الوطنية التي تستلهم قرارها وبرامجها من مصالح شعبها، دون الرضوخ للضغوط الإقليمية والدولية.

ولعل تجربة ولادة دولة «داعش» في العراق، شكلت صدمة للشعب العراقي، إذ أكدت مدى هشاشة بنية الدولة، بما في ذلك جيشها، ما حتم بناء تشكيلات عسكرية خارج نطاق الدولة، بصيغة معينة، تحت مسمى «الحشد الشعبي» أسهمت بدعم استخباراتي وعملياتي، من الوجود العسكري الأميركي في العراق، في إسقاط مشروع الدولة الإسلامية، وقد أدى هذا السقوط إلى إعادة خلط الأوراق في البلاد، بحيث تحول العراق من منطقة تعايشت فيها الولايات المتحدة مع النفوذ الإيراني، في مواجهة داعش، إلى منطقة صراع نفوذ بين الطرفين، لا يمكن لطرف أن يعزز نفوذه إلا على حساب الطرف الآخر. وقد جاء انفجار الانتفاضة الشعبية على أيدي جيل الشباب، يعكس واقع الحال، وليشكل ثورة على الواقع، تهدف إلى إخراج العراق من خندق الصراع الإقليمي، نحو بناء الدولة الوطنية، على أسس مدنية وديمقراطية خارج نظام المحاصصة الطائفية والمذهبية، ونظام النهب المنظم لموارد الدولة مقابل تجويع الشعب.

• في السياق نفسه، تصاعدت نيران الصراع الإيراني ـ الأميركي، والذي يتوقع المراقبون أن يكون العراق أحد مسارحه الكبرى، خاصة في ظل وجود قواعد أميركية في بلاد ما بين النهرين، يقابلها وجود تشكيلات عسكرية موالية لطهران، أعلن المتحدثون باسمها عزمهم على ملاحقة الوجود العسكري الأميركي، إلى أن يخرج من العراق. صراع بالضرورة ستكون له تداعياته على أوضاع الدول الخليجية، بكل ما يعنيه الخليج من ترسانات عسكرية، ومصدر لحاجات العالم من النفط، وصراعات إقليمية، لا تقل خطورة هي الأخرى، عما هو متوقع أن يشهده العراق.

• الأمر الذي ينقلنا إلى اليمن الذي ما زال ينزف في ظل حرب أهلية مديدة، تدعم أطرافها المتناحرة دول الجوار، بالمال والسلاح، والتكنولوجيا، ما أخرج الحرب اليمنية من إطارها المحلي، ليجعل منها هي الأخرى مسرحاً لتصفية الحسابات بينن طرفين رئيسيين يتنازعان المصالح في المنطقة هما إيران والعربية السعودية، خاصة وقد نجح الطرفان في إلباس نزاعهما  الصفة المذهبية باعتباره صراعاً شيعياً ـــــ سنياً، فامتدت أصداؤه إلى دول أخرى، منها على سبيل المثال، لبنان. ولعل القصف الذي تعرضت له مصفاة أرامكو في السعودية، وقيل إنها صواريخ بالستية مصدرها اليمن، ( وقيل أيضاً مصدرها قاعدة موالية لإيران في جنوب العراق) يؤشر بوضوح إلى أي مدى تصاعد الصراع الإقليمي، وكيف تحولت قضية اليمن من قضية صراع على إعادة بناء الدولة الوطنية، إلى صراعات إقليمية ودولية، دخلت الولايات المتحدة على خطها، من خلال بعض عمليات الاغتيال لشخصيات تتهمها الولايات المتحدة بالإرهاب، أو من خلال الاحتكاك البحري والجوي، مع الوجود الإيراني في الخليج، لأكثر من مرة.

• وأخيراً، وليس آخراً، تبقى سورية، التي خطت خطوات كبرى على طريق إنهاء الوجود المسلح للقوى المعارضة في العديد من مناطق البلاد، وانتقلت المعركة في فاصلها الأخير إلى إدلب، والمنطقة الشمالية الشرقية من البلاد، وفي ظل الوجود الروسي والإيراني، في سوريا، بدعوة من الدولة السورية، والوجود التركي والأميركي، في انتهاك للسيادة السورية، ومع بقاء قضية الأكراد عالقة (قوات سورية الديمقراطية)، تحولت قضية الشمال والشمال الشرقي في سوريا، إلى مسألة إقليمية دولية، ما زادها تعقيداً، وربما ربط بينها وبين ملفات إقليمية أخرى. ما يعني أن احتمال بقاء الجرح السوري مفتوحاً، لفترة قادمة ربما تمتد قليلاً، سيكون احتمالا متوقعاً.

 

 

(4)

في خضم هذه الأحداث العاصفة، والمرشحة للمزيد من التصعيد، نسأل عن موقع القضية الفلسطينية، في حسابات الأطراف الإقليمية، والدولية، وعن استراتيجية السلطة الفلسطينية وقيادتها للعبور بالقضية الوطنية، خلال العام 2020، في بحر إقليمي شديد الهيجان، وعواصف فلكية من شأنها أن تقتلع أنظمة سياسية وأن تزرع بدلاً منها أنظمة بديلة.

لا ينطلق هذا السؤال من زاوية التحولات والتطورات الإقليمية فحسب، بل وكذلك من بوابة التطور الإسرائيلي.

نقول من بوابة التطور الإسرائيلي لأسباب منها:

• كي لا يقول أحد من الناطقين باسم السلطة «إننا نقف على الحياد، ولسنا طرفاً في النزاع»، وإننا نريد للجميع أن يكون معنا، ولا نريد أن ننحاز لأحد. علماً أن هذا القول يناقضه أمران. الأول أن رئيس السلطة أكد أكثر من مرة وقوفه إلى جانب العربية السعودية في أي نزاع إقليمي، أي أنه ألحق القضية الفلسطينية بمجاور الصراع في المنطقة. أما الثاني فإن القول بالحياد، ما هو إلا تهرب من الحقيقة. فلا حياد عندما تتجاوز التطورات بتداعياتها حدود الدول والأقطار، وتصبح العاصفة ذات ملمح إقليمي.

• يبدو واضحاً أن رئيس حكومة تصريف الأعمال الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو لا يقف مكتوف الأيدي، فالواضح أن نتنياهو بصدد ترميم حكومته بضم المزيد من وزراء اليمين المتطرف إليها، في محاولة لترتيب صفوف اليمين واليمين المتطرف في الانتخابات التشريعية المتوقعة في 2/3/2020. بينما تفيد الاستطلاعات أن الليكود، وعلى رأسه نتنياهو مازال يحافظ على موقعه المتقدم في تنافس محتدم مع تحالف أبيض ـــ أزرق، رغم ما يحيط بنتنياهو من دعاوي قضائية بتهم مختلفة، من بينها الفساد وخيانة الأمانة وغيرها. ولا يستبعد المراقبون أن يعود نتنياهو رئيساً للحكومة الإسرائيلية الجديدة. لذلك بادر إلى طرح برنامجه الانتخابي لحل النزاع في المنطقة يقوم على ستة بنود، تدور كلها حول ضم أوسع المناطق من الضفة الفلسطينية، وشطب حق العودة، ومنع قيام دولة فلسطينية مستقلة لصالح حكم إداري ذاتي على السكان، ودعم أميركي غير محدود، والعمل على توسيع دائرة التطبيع مع الدول العربية في إطار الحلف الإقليمي الذي دعت له صفقة القرن (صفقة ترامب- نتنياهو) بين أنظمة عربية وإسرائيل في مواجهة «الإرهاب ومصدره الرئيس طهران».

وفي هذا السياق بدأت الولايات المتحدة تستعيد تحركها لإحياء مشروع صفقة ترامب، من خلال عودة آفي بيركوفتيش، المبعوث الأميركي الجديد (بدلاً من غرينبلات) لإحياء المحادثات حول «الصفقة»، ودراسة موعد الإعلان عن شقها السياسي، بالتفاهم مع الأطراف العربية، ومع حكومة إسرائيل الجديدة.

• في الوقت نفسه تواصل حكومة الاحتلال خلق وقائع ميدانية على الأرض، من مصادرات، وتوسيع المستوطنات، وهدم منازل الفلسطينيين، واقتحام الأقصى، وتعطيل الصلاة في الحرم الإبراهيمي في الخليل، وشنّ حملات الاعتقال الجماعية، وفرض الإقامة الجبرية على المواطنين في المنازل، على غرار ما يجري في العيساوية، ومصادرة أموال المقاصة، وفرض الحصار على قطاع غزة، واللعب على وتر الانقسام بين حركتي فتح وحماس.

ما يعني أن الأوضاع كلها متحركة، وإن الحديث عن الحياد، هو تهرب من الواقع، وتعبير عن حالة إفلاس. فهل أفلست السلطة الفلسطينية، ولم تعد تملك استراتيجية سياسية لمجابهة الأوضاع، ومواصلة المسيرة الوطنية، في ظل الحالة القائمة، إن في شقها الفلسطيني – الإسرائيلي، أو في شقها الإقليمي؟.

(5)

تؤكد الوقائع والتصريحات الرسمية الصادرة عن السلطة الفلسطينية، أنها مازالت تتمسك باتفاق أوسلو، وتلتزم استحقاقاته، وتدعو لما تسميه المقاومة السلمية، وترفض أية أشكال صدامية مع سلطات الاحتلال، بادعاء رفض العنف، متجاهلة العنف الذي يمارسه الاحتلال بأشكال مختلفة كالقتل والاعتقالات في الشارع للناشطين السياسيين، والاعتقالات الجماعية، ومصادرة الأرض، وتوسيع الاستيطان وهدم المنازل، وفرض الحصار على قطاع غزة، واستكمال تهويد القدس والعمل على طمس هويتها الوطنية، والشروع في العمل على تهويد الخليل، ومصادرة المقدسات الإسلامية في المدينتين، من خلال حماية اقتحامات المستوطنين للأقصى، والحرم الإبراهيمي.

ومازالت السلطة ترى في العودة إلى المفاوضات سبيلاً وحيداً للحل، متجاهلة أعمال البناء اليومي للوقائع  الإسرائيلية، في انفصال عن الزمان والمكان، وفي غيبوبة سياسية، تكشف مدى وحجم المأزق السياسي الذي أدخلت فيه السلطة نفسها، وأدخلت معها المشروع الوطني، بالرضوخ والإذعان لاتفاقات أوسلو وبروتوكول باريس الاقتصادي، تلجأ إلى الرفض الكلامي المجاني، والاكتفاء بالبيانات والتصريحات والسياسات اللفظية، فيما ترفع حكومة نتنياهو سقف التحدي يوماً بعد يوم، باستخفاف شديد لردود فعل السلطة، وردود فعل قيادتها، ودوماً وفق استراتيجية لا يتوقف نتنياهو عن إعادة التأكيد عليها، يساعده في ذلك اليمين المتطرف، ويلتقي معه في ذلك تحالف أزرق – أبيض، في التأكيد أن لا دولة ثالثة بين الأردن وإسرائيل، وأن سقف الحل المقبول هو الحكم الإداري الذاتي للسكان، تحت هيمنة «إسرائيل الكبرى»، تطبيقاً لصفقة «ترامب – نتنياهو»، التي احتفل ضحايا الوهم السياسي بإفشالها، ليعيد مبعوث ترامب، آفي بيركوفيتش نفض الغبار عنها، وإعادة إطلاقها مع اقتراب موعد الانتخابات الإسرائيلية التشريعية، في 2/3/2020.

في الوقت نفسه تدرك السلطة وقيادتها، من بيدها زمام القرار السياسي، أن خطابها السياسي، لا يلقي آذاناً صاغية في الشارع الفلسطيني، الذي فقد الثقة بالعملية التفاوضية ونفض يديه مما تبقى من اتفاق أوسلو، وبدأت المسافة بينه وبين السلطة تتسع يوماً بعد يوم، وتعاظم لدى الشرائح الكبرى في الشارع الفلسطيني، غياب اليقين، بقدرة  هذه السلطة وسياستها، وحكومتها، وعموم مؤسساتها، على حماية المشروع الوطني الفلسطيني، فلا هي تحمي الأرض، ولا هي تحمي السكان، ولا هي تحمي الاقتصاد، ولا هي تقود الحركة الشعبية في معركة تصدي جدية لسياسات الاحتلال وممارساته القمعية وإجراءاته الاستعمارية الاستيطانية، التي باتت تعتمد سياسة «إبادة المكان» في مناطق الـ67، بعدما نجحت في العام 1948 في «إبادة السكان» لذلك، تحاول السلطة أن تداري فشلها السياسي من خلال استحضار  «أرانبها» بين فترة وأخرى، لإشغال الرأي العام، والإيحاء بأن هناك عملية سياسية تدب على الأرض، وإن السلطة تمتلك استراتيجية سياسية. لكنها، للأسف، أكدت بالملموس أنها استراتيجية «الأرانب النافقة»، إذ ما أن تستحضر من قبعتها السحرية أرنباً لإبهار المجتمع بمنظره وإشغاله لفترة زمنية معينة، حتى ينفق، ويتحول إلى مجرد جيفة ذات روائح نتنة.

(6)

مع مطلع العام الفائت، قررت سلطات الاحتلال مصادرة 160 مليون شيكل من أموال المقاصة بدعوى أنها تساوي الرواتب والتعويضات التي تقدمها السلطة لعائلات الشهداء، وللأسرى وعائلاتهم. قررت السلطة، دون تخطيط، رفض استلام الأموال إلا كاملة. واستمر الرفض لمدة سبعة أشهر، تجاهلت فيها سلطات الاحتلال رد فعل السلطة الذي لم يتجاوز حدود القرار الإداري، كما تجاهلت فيها الدول العربية نداء السلطة لتأمين شبكة أمان مالية تعوض ما قرصنته سلطات الاحتلال. انتهت حالة الحرد بالتراجع عن قرار رفض استسلام الأموال منقوصة، وفرضت سلطات الاحتلال قرارها، ثم ألحقته بقرار جديد، بمصادرة 150 مليون شيكل إضافية عن العام 2018، وتحت الذرائع نفسها. هذه المرة بلعت السلطة الإهانة واكتفت ببيان احتجاج دون أية ردة فعل عملية واحدة. علماً أن بيدها أوراقاً سياسية وميدانية كان يمكن أن تلجأ إليها. لكن السلطة غلبت استراتيجية الانسياق وراء التزامات أوسلو، على استراتيجية المواجهة كما رسمتها قرارات المجلس الوطني في دورته الـ 23، والمجلس المركزي في دورتيه الـ 27 والـ 28.

وهكذا تحول قرار قرصنة أموال الشعب الفلسطيني إلى واقع مسلم به عملياً، استسلمت له السلطة الفلسطينية لأنها لا تملك الإرادة السياسية للصدام مع سلطات الاحتلال، بذريعة نبذ العنف، في خلط متعمد بين العنف والمقاومة، وفي تشويه خطير لمفهوم المقاومة التي يخوضها سكان الضفة الفلسطينية وقطاع غزة.

هذا أرنب نفق سريعاً، وثمّ  تم طمره في صمت، بعيداً عن الأضواء.

(7)

في 25/7/2019، ورداً على هدم سلطات الاحتلال أكثر من مئة شقة سكنية لمواطنين فلسطينيين في إحدى ضواحي مدينة القدس، قرر اجتماع «قيادي» في رام الله وقف العمل بالاتفاقيات الموقعة مع إسرائيل، وشكل لهذا الغرض، لجنة (هي الثامنة من نوعها) لدراسة خطط وآليات تطبيق القرار في السياسة والاقتصاد والأمن. وها قد مضى على تشكيل هذه اللجنة حوالي ستة أشهر كاملة، دون إبلاغ الرأي العام بما قامت به اللجنة، وإلى ما توصلت في دراستها وتخطيطها، وما هو مصير القرار بوقف العمل بالاتفاقيات الموقعة مع إسرائيل. استمرت العلاقة مع دولة الاحتلال، ومع ما سمي الإدارة المدنية للاحتلال، واستمر التنسيق الأمني مع قواته، وتبخر قرار وقف العمل بالاتفاقيات، وانحلت اللجنة المكلفة بالتخطيط لتنفيذ القرار، دون تكليف الذات، من موقع الاحترام للرأي العام، مصارحة الشارع الفلسطيني بالحقيقة. مع أن المعلومات التي تسربت من داخل اللجنة تفيد أن ممثلي السلطة فيها، كانوا صريحين جداً حين قالوا، في أول اجتماع اللجنة، في استحالة وقف العمل بالاتفاقيات، نظراً لغياب القرار السياسي بذلك لدى القيادة التي بيدها زمام القرار. فاجتمعت اللجنة مرة واحدة، ثم ما لبثت أن تبخرت.

وهكذا ولد الأرنب هذه المرة ميتاً، جثة نافقة.

 

(8)

في محاولة للتغطية على فضيحة وزارة الزراعة شراء 20 ألف طن زيتون من داخل إسرائيل، وعبر تجار إسرائيليين، في خطوة عززت الارتباط بالاقتصاد الإسرائيلي، حاولت السلطة الفلسطينية أن تشمر عن ساعديها لتوهم أنها تخوض معركة الانفكاك الاقتصادي عن دولة الاحتلال. فقررت وفق شراء اللحم الحي (العجول) من إسرائيل، واستيراده، بدلاً من ذلك من دول أخرى. منذ العام 2006 والسلطة تستورد حاجتها كاملة من لحم العجول الحية عبر تجار إسرائيليين، تنتج إسرائيل فقط 10% منها، ويستورد التجار الإسرائيليون الباقي من دول أخرى، ويعيدون تصديره لمناطق السلطة، في علاقات اقتصادية مشبوهة، تربط بين شبكات تجارية فلسطينية ـ إسرائيلية، بنت مصالحها على إدامة العمل باتفاق أوسلو، وبروتوكول باريس الاقتصادي.

اتخذت السلطة القرار دون تحضير مسبق، ودون أي حساب لرد الفعل الإسرائيلي. سلطات الاحتلال ردت سريعاً، من خلال منع استيراد العجول إلّا عبر تجارها. وعطلت عمليات الاستيراد والتصدير لمناطق السلطة، عبر المعابر كلها، مما تسبب بأزمة تموينية اجتاحت الأسواق الفلسطينية. السلطة الفلسطينية، رضخت بعد أيام، وتراجعت عن القرار، وقبلت بالضغط الإسرائيلي، وعادت وسمحت للتجار الفلسطينيين «بحرية» استيراد لحم العجول دون شروط، ما عنى، عملياً، العودة إلى البوابة الإسرائيلية.

كان واضحاً أن السلطة خاضت «معركة» فاشلة، كان من نتائجها إرباك السوق الفلسطينية، لأنها لا تملك استراتيجية متكاملة، للانفكاك عن اقتصاد الاحتلال والتحلل من قيوده. لذلك لجأت إلى الخطوات المرتجلة في سياسة استحضار الأرانب النافقة.

معركة لحم العجول، أرنب نافق جديد، لوثت السلطة برائحته النتنة الأجواء السياسية .

(9)

مؤخراً فاجأ رئيس السلطة الحالة السياسية الفلسطينية في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، بالدعوة لانتخابات تشريعية ورئاسية في السلطة الفلسطينية.

تباينت الآراء في مدى جدية السلطة في دعوتها. لكن حصل بالمقابل إجماع على الترحيب بالدعوة، على أمل، وفي رهان، أن تشكل الانتخابات، واللجوء إلى صندوق الاقتراع، خطوة نحو الاتجاه الصحيح، تقرب من إمكانية إنهاء الانقسام، وإعادة بناء وتوحيد المؤسسة الفلسطينية. في هذا السياق، تحركت لجنة الانتخابات المركزية، بدلاً من الدعوة إلى حوار وطني تمهيداً للأجواء أمام نجاح العملية الانتخابية. من جانبه بعث رئيس السلطة إلى القوى الفلسطينية كافة، برسالة، حملت عدداً من الأسئلة، حول مدى استعداد الفصائل لتنظيم انتخابات نزيهة، وشفافة، والقبول بنتائجها، على أن تجري الانتخابات بالتتابع، التشريعية أولاً، ثم الرئاسية بفاصل زمني لا يتجاوز الأشهر الثلاثة. كافة الردود، باعتراف رئيس السلطة نفسه، كانت إيجابية، وبالتالي كان يفترض أن تكون الخطوة اللاحقة، حسب ما جاء في رسالة رئيس السلطة، هي إصدار المرسوم بالدعوة للانتخابات.

هنا أطلقت السلطة شرطاً، بدونه لن تجري الانتخابات، ألا وهو أن تجري الانتخابات أيضاً في القدس، ورفعت شعار «لا انتخابات بدون القدس»، ورفضت قيادة السلطة إصدار المرسوم إلا بعد أن تعلن سلطات الاحتلال موافقتها من تنظيم انتخابات «في القدس» في الوقت الذي ترفض فيه سلطات الاحتلال أي نشاط فلسطيني في القدس باعتبارها عاصمة الدولة وتحت السيادة الإسرائيلية.

قدمت القوى والشخصيات اقتراحات بديلة تجمع بين الانتخابات في القدس، وباقي مناطق السلطة، كأن توضع صناديق الاقتراع في الأقصى وكنيسة القيامة، تتحمل سلطات الاحتلال بعدها مسؤولية التعطيل، أو أن تجري الانتخابات في أبو ديس مثلاً، لكن السلطة رفضت إصدار المرسوم، رغم النداءات الكثيرة بإصداره، وتحت راية المرسوم تخاض معركة القدس، من موقع أقوى، يؤكد جدية السلطة في شأن الانتخابات ويفتح الباب عريضاً لمعركة شاملة تربط بين القدس والانتخابات.

غير أن السلطة ما زالت ترفض إصدار المرسوم، متمسكة بشعارها «لا انتخابات بدون القدس». وبدلاً من أن تضع خطة وطنية شاملة، لإرغام سلطات الاحتلال على الرضوخ لتنظيم انتخابات فلسطينية في القدس، اكتفت السلطة بمطالبة المجتمع الدولي الضغط على إسرائيل، وهي التي تدرك أن هذا الضغط، أياً كان مستواه، فإنه لن يأتي بالنتيجة المطلوبة.

أسلوب السلطة في خوض معركة القدس، يحمل في طياته مؤشرات خطيرة. فمن يراهن على أن الضغط الدولي هو من سيحرر القدس، لن يرى القدس محررة، لا الآن ولا في الغد البعيد. ومن يحاول أن يعفي نفسه من واجبات خوض معركة القدس، في رهان على أن المفاوضات هي السبيل لاستعادتها، لا يملك الإرادة السياسية الضرورية لاستعادة عاصمة القدس الفلسطينية.

نتائج الدعوة للانتخابات، تتلخص في نقطتين: لا انتخابات، ولا خطط ولا استراتيجية لخوض معركة القدس.

وهكذا أضيف أرنب الانتخابات إلى كومة الجيف النافقة التي تراكمت خلال العام المنصرم .

(10)

أخيراً، وليس آخراً، اهتدت السلطة إلى ما باتت تسميه المعركة الدبلوماسية. استندت في ذلك إلى سلسلة القرارات التي اتخذتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الأخيرة. وهي قرارات تعيد التأكيد عليها كل عام. كما استندت إلى خطوة من محكمة الجنايات الدولية، شكلت ثمرة لتحرك فلسطيني دام أكثر من أربع سنوات. وبالتالي باتت المعركة الدبلوماسية هي «الحل الاستراتيجي» لدى السلطة.

• هل حل قضية القدس يكون عبر التحرك الدبلوماسي ورمي الكرة في أحضان «المجتمع الدولي».

• هل مواجهة قضايا الاستيطان، تكون عبر التحرك الدبلوماسي ورمي الكرة في أحضان «المجتمع الدولي».

علماً أن التجارب، الفلسطينية، والعالمية، تؤكد أن ما يسمى بـ«المجتمع الدولي» لن يكون بديلاً عن المقاومة الوطنية للشعوب أصحاب القضايا الواجب دعمها.

هذا ما شهدناه عربياً، في الجزائر، وتونس، وليبيا، والمغرب، وسوريا، واليمن، والعراق وغيرها.

هذا ما شهدناه دولياً، في فيتنام وكوبا، وعموم دول أمريكا اللاتينية.

وهذا ما شهدناه فلسطينياً، منذ أن أطلقت م.ت.ف برنامجها المرحلي، وشكل مقدمة لانطلاقة الانتفاضة الوطنية الكبرى عندها تحرك المجتمع الدولي.

الرهان على المجتمع الدولي بديلاً للمقاومة، هو تهرب من المواجهة. والرهان على المجتمع الدولي، في ظل قيود أوسلو وبروتوكول باريس، هو رهان على السراب.

وهكذا، ولد أرنب الدبلوماسية العارية، من أية مواجهة ميدانية، هو الآخر نافقاً.

وإلى أن تمتلك السلطة الفلسطينية رؤيتها السياسية ديلاً لاتفاق أوسلو،

وإلى أن تمتلك السلطة الفلسطينية الإرادة السياسية نحو تطبيق قرارات المجلس الوطني والمجلس المركزي، سيبقى باب الاحتمالات مفتوحاً على مصراعيه.

في اليومين الماضيين، نقل وزير الإدارة المدنية في السلطة، أي ضابط الارتباط الأول مع سلطة الاحتلال، رسالة من القيادة الفلسطينية إلى حكومة نتنياهو، ينذرها فيها بخطورة انفجار الوضع في الضفة الفلسطينية.

هذا الخبر لم يوضح «في وجه من سيقع الانفجار الذي تحذر السلطة الفلسطينية من خطره؟»

معتصم حمادة

 

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت