- بقلم: د. حنا عيسى - أستاذ القانون الدولي
الثقافة بمفهومها العام عملية تفكير جماعية، ومنها يبرز أحد أدوار المثقف، الباحث والمجتهد، في الجماعة السياسيّة، فتدرك الأمّةُ أهميّته، وتفْهم جانبًا من صنعته المرهقة. ونتيجةً لذلك تنفتح على جديد الثقافة، وتتقبّل بشكل أفضل ما تجريه من تغيير على وعيها بالعموم ووعيها لذاتها بالخصوص.
الثقافة الوطنية هي المعتقدات والقيم والتعبيرات التي هي محصلة ما هو موجود في المجتمع فعلاً، فهي نتاج للواقع الذي يعيشه هذا المجتمع، فهي حقيقة اجتماعية معاشه ومشاهدة.
فالثقافة الوطنية تجمع ولا تفرق وتوحد الناس على حب بلدهم وتعزز الانتماء لهم وعلى التفاني في العمل لرفعته لان رفعته هو رفعة لكل إنسان في المجتمع.
وتعرف الثقافة بأنها التراث الفكري الذي تتميز به الأمم عن بعضها البعض بشكل أو بآخر وذلك لما يتمتع به كل مجتمع من خصائص وظروف جغرافية وتاريخية ومناخية وعقائدية. فثقافة أي مجتمع تعتبر هوية له في التعامل مع الثقافات الاخرى وهي التي تجعله قادر علي الحضور والتواصل مع مختلف البيئات وقابل للتحاور والتماهي مع الثقافات العالمية.
والأوطان جميعاً تتكون من قوميات وأديان ومذاهب ومعتقدات كونته وتكونت فيه على امتداد الالاف السنين فليس من المنطق أو من الممكن أن نلغي كل هذه المكونات أو نجبر أي مجتمع كان على تركها، فالمواطنة هي ظاهره وعلاقة اجتماعية. فالمثقف الوطني يتحمل أعباء كبيرة فيما يفسده المجتمع ويعمل على إصلاحها ولا يمكن ولا يليق به كمثقف وطني أن يكون نشاذاُ لابد أن يبتعد عن الدعوة للقبلية والمحسوبية وينادي بالقومية الوطنية وحقوق المواطنة التي يتساوى فيها المواطنين جميعً دون تمييز، لا بد أن يكون حديثه ذو أهداف وطنية ويعمل على إحياء الثقافة الوطنية حتى لا تكون وليمة للفتن والأطماع الدولية.
ويعتبر شعبنا الفلسطيني من أكثر الشعوب ثقافة وطنية، لأننا بثقافتنا الوطنية وبمعرفتنا الكاملة بموروثنا الثقافي نستطيع محاكاة الجميع، فالاحتلال الإسرائيلي سرق جزء كبير من موروثنا الثقافي وعمل على تهويدها وتغيير أسماء الأماكن المقدسة حتى يجد له مكاناً على هذه الأرض ويثبت للعالم أن هذه الأرض ملك أجداده منذ ألاف السنين، خاصة وأنه يمتلك وسائل إعلامية تعمل على تزوير الحقائق، فنحن لا نخشى من اندثار تراثنا الوطني بقدر ما نخشى سرقته من قبل الاحتلال الإسرائيلي.
وتعتبر الثقافة الوطنية الفلسطينية جزءا لا يتجزأ من هوية الشعب الفلسطيني على مر التاريخ والعصور، مما لابد من الإشارة إليه أن بدء ظهور المجلات والملاحق الثقافية في فلسطين يعود إلى عام 1905، حيث الاهتمام بنشر كتابات المثقفين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة وفي الشتات، إضافة إلى ما ينتجه الكثير من المثقفين وكبار الكتاب والشعراء والأدباء العرب المناصرين للقضية الفلسطينية.
وقد شكلت الديانات السماوية التي ظهرت أو انتشرت منذ بداياتها على أرض فلسطين وكذلك المساهمات الحضارية للشعب الفلسطيني في التجارة عبر البحار والزراعة المتطورة عناصر هامة في نشر الثقافة الفلسطينية والعربية والإسلامية والمسيحية، وكذلك في امتزاجها بثقافات مختلف الشعوب في العالم. حيث كانت فلسطين محط أنظار المؤمنين من المسيحيين من شعوب العالم قبل ألفي عام والقبلة الأولى للمسلمين قبل ألف وأربعمائة عام ونيف. وصارت فلسطين غذاء الروح والعقل والفكر لأعداد هائلة من الكتاب والشعراء والمفكرين والعلماء، وحطت الرحال بأعداد كبيرة منهم في مدن فلسطين وقراها، في وديانها وقمم جبالها وسهولها وشواطئها. وعلى مر العصور عانت فلسطين من الغزو والاحتلال والحروب، والتقت على أرضها في يوم واحد جيوش دول غريبة عن بعضها البعض، جمعتها أطماع وأحلام وطموحات، وتفرقت مهزومة امام صمود الشعب الفلسطيني والمؤمنين من حوله بعروبة فلسطين. حيث حدث هذا في التاريخ مراراً وتكررت الهزائم وتكرر الفوز وبقيت فلسطين أرضاً ومهداً للديانات والحضارات والتقدم ومنهلا للفكر والعقيدة وقلباً مفتوحاً للتآخي والتسامح والسلام.
وتعرّف الثقافة الفلسطينيّة بتاريخٍ كفاحيّ متراكم، قوامُه استعادةُ الوطن الذي كان، والبرهنةُ على أنّ "ما كان " قابلٌ للاسترداد. ومع أنّ التعريف يمرّ على "الأرض التي أورق فيها الحجر،" كما قال محمود درويش الشابّ، فإنّه يبدأ من "القضيّة " قبل أن يشير إلى المكان المشتهى، ذلك أنّ معنى الوطن من معنى الإنسان الذي يدافع عنه، وأنّ القضايا الكبيرة جميعَها تبدأ من الإنسان، لا من الأرض أو الحجر.
وكانت فلسطين بأرضها وشعبها ودياناتها وثقافتها ملهماً ومنهلا لكبار الكتاب والشعراء والرحالة، ومنهم الروس الذين وصل إليها منهم كثير، كتبوا فيها قصائدهم الخالدة ومذكراتهم الشيقة المثيرة - وكتب عنها غيرهم كثر ممن حلموا بها ولم تسعفهم الحياة بزيارتها. (بوشكين، ليرمونتوف، تولستوي وراسبوتين ...الخ) وكتاب وأدباء من مختلف بلدان أوروبا ومن أسيا وأفريقيا. وفي ظل الثقافة الفلسطينية وفي حضنها نشأ أروع وأصدق الشعراء والكتاب من أبنائها ... محمود درويش وسميح القاسم وإميل حبيبي وعبد الرحيم محمود وتوفيق زياد وغسان كنفاني وابراهيم طوقان وغيرهم الكثير الكثير.. ومن المفكرين ايضا الكثير الكثير وليس ادوارد سعيد اولهم او اخرهم.. وترجمت أعمالهم الشعرية والنثرية إلى العديد من لغات العالم فأغنوا بها ثقافات تلك الشعوب وعمقوا بها لغة الحوار والسلام.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت