أمام جريدة القدس … أنا في آخر الأرض

بقلم: عيسى قراقع

عيسى قراقع
  • بقلم عيسى قراقع

السيد رئيس تحرير جريدة القدس :
 
عندما أقرأ الجريدة يومياً وأقلب صفحاتها فإن مشاعري تنقبض ويملأ الحبر الأسود قلبي فينتفض ويرتجف ، ويكون يومي مع الجريدة أطول بكثير من ساعات القراءة ، يوماً عصيباً ، اسير فيه تحت جنازير وبساطير الاحتلال .
 
هذه الجريدة بأخبارها المزدحمة تذكرني وربما تذكر غيري أننا لا زلنا شعباً نرزح تحت نير الاحتلال ، تختفي تلك  الأضواء المصطنعة والشكليات والمسميات اللامعة ، حقائق صادمة تحطم اليافطات والأصنام ، والكلام البليغ المشبوب بجنون العاطفة .
يوم واحد يشبه ما قبله وما بعده ، فكيف اذا كانت هذه الأيام على مدار ٥٤ عاماً من الاحتلال ؟ كل خبر يصرخ في وجهك ويلطمك ، يهز عظامك ، وعندما تنهض يلاحقك ظل لم يعد ظلك، كيف يعيش الانسان مفصولاً عن ظله ؟ عالمان مختلفان يتصارعان في وعيك، الواقع يكسر الوهم ، وللحبر رائحة اخرى تشبه رائحة العفونة في السجن .
لنقرأ اخبار يوم ٢٣/٢/٢٠٢٢  على سبيل المثال ، الجريدة تقول : استشهاد الطفل محمد صلاح (١٤) عاماً برصاص قناص اسرائيلي في الخضر ، واقتلاع المستوطنون ٢٥ شجرة زيتون من اراضي كفر الديك في محافظة نابلس ، وحملات اعتقالات طالت ٢٣ مواطناً واقتحام 325 مستوطنا بحماية جنود الاحتلال للمسجد الأقصى وساحاته ، اغلاق المداخل الرئيسة لقرية الجلمة ، واحتجاز عشرات المركبات واستمرار اعتداء المستوطنين والشرطة على حي الشيخ جراح ، واخرون يهاجمون المزارعين في سلفيت ، توزيع عشرات اوامر الإزالة والاستمرار في هدم المنازل في القدس …
ربما هذا اليوم هو اكثر الأيام هدوءاً ، وعلى القارئ ان يتماسك قليلاً أمام أخبار الإعدامات التعسفية وأمام اخبار الأسرى المضربين عن الطعام والمشتبكون مع سياسة القمع والبطش في السجون ، وعلى القارئ أن يأخذ الكثير من المسكنات عندما يقرأ أن  الأسير ناصر أبو حميد يصارع الموت بسبب الاهمال الطبي ، وأن اعداداً أخرى من الأسرى دخلت اعوامها ال٣٥ في سجون الاحتلال ، الجريدة تقول لك : أنت تعيس في الأرض المحتلة ، القناص يوجه بندقيته نحوك ، القناص بين السطور ، انت هدف دائما، لا قيمة لك، أنت مجرد شيء، أنت مشروع  للشطب باسم شعب الله المختار الموعود على هذه الأرض ليقتل ويسفك الدماء ويصادر الحياة .
 
 
في الجريدة ترى الجنود يعذبونك ، يجرونك ويعتقلونك ، تراهم يهاجمون بيتك وينسفونه بالمتفجرات ، انت الان في الغبار ، شيء يشبه الجثة ، في رأسك ضجيج الجرافات وصراخ المستوطنين ، اراضٍ تصادر  ، اشجار تقتلع ، يستفزون الصلوات الخمس في القدس ، تخريب واصابات واخطارات وملاحقات وحواجز ، انت لا تقرأ، انت تحت وقع الحرب أمام هذه الجريدة ..
 
تقول الجريدة : عزيزي القارئ ، انهم يسحلونك ويهندسونك ، يصنعون منك انساناً اخر يشبه الانسان ، هل ترضى ان تكون دون خط البشر؟ تحتاج الى نوم وأكل وحاجيات غريزية ليس أكثر ، اقتصاد المراعي وتنمية عبوديتك لأرقام الحساب وللذبح ، لقد صرت رقماً اذاً  ، يحركونك كيفما شاءوا  ويسجنوك متى شاءوا ، هذا هو انت في هذا اليوم الطويل في صفحات جريدة القدس .
 
الجريدة صفحة على اراضي منهوبة ومغمسة بالدم، أكبر من الابرتهايد وأبشع من استعمار كولونيالي ، انت في نهاية الارض وسط أكبر امبراطورية استيطانية في التاريخ البشري ، ربما تحتاج الى بلاغة أخرى لوصف الإبادة .
 
الجريدة تقول : اسرائيل ترصد الملايين لربط مستوطنات القدس الشرقية بالغربية ، لا مكان لك في العاصمة ، المعطيات تقول ان اسرائيل لا تحاسب ولا تلاحق جرائم المستوطنين ، وهناك على حاجز حزما يطلقون النار على المواطنين، وفي قرى شمال غرب القدس تجد نفسك محاصراً بالابرتهايد، لا تستطيع التحرك والتنقل بين ١٤ قرية محاصرة بالجدار والبوابات والانفاق والحواجز ، وعندما تبحث عن املاكك فلا تجدها ، كل شيء تم تدميره ، الخيام والمنشآت والحظائر والبركسات وخزانات المياه، والمشاتل والمدارس وخطوط المياه والآبار، وعلى مدار الساعة هناك آلة هدم تلاحقك اينما شئت ، ومن الصفحة الأولى الى الصفحة الأخيرة هناك من يشد انفاسك حتى الاختناق .
 
عزيزي القارئ : لقد استبدلوك كمواطن وقارئ ، استبدلوا تاريخك وثقافتك وقيمك ، انت تقرأ عن نفسك ولكن انت لست نفسك ، ليس لك بيت ولا ارض ولا اصحاب ولا اصدقاء ، ليس لك كوشان وهوية ، لقد افرغوا محتواك ، علقوك في اشداق الوحش وفي سياسة الافناء .
أمام صفحات الجريدة تتحول الى  مكتشف ، كانت هنا بلاد جميلة ، بلاد حولها البرابرة الى مستعمرة ، كان هنا بحر ونهر ودالية وارض وسماء ، تكتشف أن كل شيء يرحل بعيداً ، لا مساحة في الجريدة للاختباء من القصف ، هناك من يدفعك للرحيل بعيداً أو التلاشي  في الكلمات التي تشبه صوت الرصاص.
 
السيد رئيس التحرير  :كيف حملت هذه الكمية الثقيلة من الأخبار ولا زلت حياً تكتب لنا ، لمن تكتب ؟  اشجار تسقط ، اراض تقتلع ، الأخبار تنهبني وعياً وادراكاً ، ارى جرافة اسرائيليةً مقبلة نحوي ، تدهسني ، ارى بندقية مصوبة الى رأسي ، ارى سجناً ينتظرني ، لكني امام الجريدة ، فمن اين جاء هذا الوجع وقطرات الدم النازفة على الورق ؟
 
السيد رئيس التحرير :  هل انت في القدس ام تحت الارض ؟ تكتب للناس من باطن الأرض كما كتب ديستوفسكي رسائله ذات يوم ، ام انك كذلك الراهب في قصة الكونت دي مونت كريستو الذي انفق السنوات في حفر الانفاق ليجد نفسه بعد ذلك في زنزانة اخرى ، اصبحنا والسجن امر واحد ، تنويم مغناطيسي خدرنا، وعندما نستيقظ نبحث بأفكارنا عن فعالية عقلية تدلنا عن طريق الحرية .
مهما قلبت صفحات الجريدة ، وحاولت أن تخرج من الحبر الاسود الى فضاء أبيض ، تجد نفسك المجرم والارهابي في المحكمة العسكرية الاسرائيلية ، انقلبت المعادلة  المؤبد لحركة التحرير الوطني وحق تقرير المصير ، الحياة المديدة للاستعمار ، لكنك امام الجريدة ولست في جهنم الاسرائيلية ، الأفكار تهرب من النيران ، الافكار تحاول أن تطفئ اللهيب في العقل والوجدان والذاكرة .
السيد رئيس التحرير : هل قلت وداعاً للسلاح التي قالها همنغواي في روايته الرائعة ؟ كان يبحث عن السلام ويكره اشد الكره تلك الحرب ، وعندما تحول السلام الى شكل اخر واكثر قسوة من الحرب أصيب بالجنون الذي قاده الى الانتحار ، كان يعرف انه لا زال ٩ اطفال محتجزين  في ثلاجات الموتى ، كان يعرف ان السلام الموعود حول الناس الى سجناء في اقفاص متباعدة ، كان يعرف انه فقد جمال اللغة وصوت الطيور بعد أن شاهدها  معلقة مذبوحة على سياج الرواية .
السيد رئيس التحرير : الجريدة صفحة على جسد وطن ، ثقوب كثيرة ، اشلاء متناثرة ، اسنان الجرافات مزقت البلاد ، سقطت فكرة الدولة ومقومات الدولة ، حتى الابراج في نهاية الجريدة لم تبتسم للقارئ، لكنك ما زلت تكتب كأنك محكوم عليك بالحرية ، وأن تكتب يعني انك ما زلت حياً ، هكذا يقول عقل الجريدة .

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت